ماذا بقي في جعبة الأسد؟

ماذا بقي في جعبة الأسد؟
تجاوز الأسد في إبادته للشعب السوري حدود العقل والمنطق, وأغرق بالدم جميع الفضاءات الداخلية الممكنة والخطوط الخارجية الملونة التي وضعت له؛ ومع ذلك وقف العالم متفرجاً على أفلام رعبه اليومية, مكتفياً بالإدانة والشجب, والتصريحات الجوفاء الداعية إلى تنحيه, وعقد المؤتمرات والاجتماعات واللقاءات الدولية التي لا تقدم ولا تؤخر شيئاً على أرض الواقع. فقد انكشف خداع العالم الهلامي لهذا الشعب المسكين وتآمره وخذلانه وسكوته على جرائم السفاح اليومية, وسماحه بدخول التنظيمات المذهبية المتطرفة – من حالش إلى داعش – للقتال إلى جانبه من أجل إضعاف القوى الوطنية المعتدلة, والانحدار بالثورة إلى مستوى الحرب الأهلية السقيمة.

طوال هذه الفترة لم يقم الأسد بأية خطوات جدية قادرة على تخفيف عذابات السوريين وآلامهم؛ فقد بقي يكذب ويراوغ ويتعنت ويتهرب من مسؤولياته, في حين استمرت قواته وشبيحته ومرتزقته العابرين للحدود الطائفية بالقتل والتدمير والتهجير...

عندما استخدم السلاح الكيماوي في غوطتي دمشق الشرقية والغربية (21 آب 2013), وراح ضحيته آلاف القتلى والجرحى والمشوهين من المدنيين العزل, وبعد أن تناقلت وسائل الإعلام العالمية الصور المروعة لتلك المجزرة الرهيبة التي تعد جريمة بحق الإنسانية ووصمة عار على جبين عالمها المتحضر, المتشدق دائماً بمبادئ الحرية وحقوق الإنسان؛ وتحت ضغط داخلي وخارجي, اضطر أوباما إلى تحريك بوارجه الحربية نحو البحر المتوسط, ملوحاً باستخدام القوة من خلال توجيه ضربات مركزة إلى التجمعات العسكرية والأمنية النظامية.

ربما كان جاداً بنواياه في حينها؛ لكنه ما لبث أن تراجع عن موقفه, حيث صرح وزير خارجيته جون كيري أنه يمكن تفادي الضربة إذا سلم الطاغية مخزونه الفتاك إلى المنظمات الدولية المختصة؛ ما اضطر الروس للإعلان مباشرة عن مبادرة تقدم ضمانات أكيدة للتخلص من كيماوي الأسد ضمن حدود زمنية معينة!

الغريب ليس في الإعلان عن المبادرة الروسية, بل ظهورها في ذلك الوقت بالذات, والإسراع بالاتفاق بين روسيا وأمريكا بهذا الشأن, وخروج اتفاقهما إلى العلن قبل تقديم تقرير لجنة الأمم المتحدة, رغم معرفة جميع الأطراف بأن النظام السوري هو الذي استخدم السلاح الكيماوي بغية إيقاف مقاتلي الجيش الحر عند حدود ريف دمشق وعدم تقدمهم باتجاه العاصمة. إن موافقته السريعة على تلك المبادرة ما هو إلاَّ دليل واضح وصريح على استخدامه غازاً ساماً في الغوطتين؛ لأن نوع الصواريخ القادرة على حمل هذا الغاز لا يمتلكها أحد غيره.

استطاعت عناكب الدبلوماسية الروسية لأول مرة التفوق والتغلب على الجميع عبر جرهم إلى حبالها السورية المتشابكة تشابكاً معقداً جداً؛ بحيث ما إن تتخلص من حبل حتى تجد حبلاً آخر يلتف حولك!

فجأة تراجعت حدة التصريحات الرسمية الأمريكية تجاه حاكم دمشق, وعادت سياسة النأي بالنفس الأوبامية المقيتة تبرز وكأن شيئاً مأساوياً لا يحدث في سورية.. بدأ التركيز على المدة التي تستطيع فيها دمشق تسليم عناصر سلاحها الأكثر خطراً, لكنها – بنفس الوقت – أخذت تراوغ زاعمة أن الأمر يتطلب تقدماً على الأرض من قبل قواتها النظامية لتأمين نقل سلاحها المحرم دولياً إلى الشاطئ, وترحيله من أجل إتلافه في سفن حاصة ترسوا بعرض البحر. ما جعل أوباما يتحدث هاتفياً مع بوتين ويناقش مسألة تأخير تنفيذ المهمة من قبل الجانب السوري, باعتباره المسؤول المباشر عن هذا السلاح, وهو الذي أعطى وعداً بتسليمه كي يخلص حليفه الديكتاتور من الضربة العسكرية الأمريكية المزعومة!

استغل الأسد مسألة سلاحه الكيماوي بشكل كبير, مختلقاً شتى الأعذار والحجج كي يتملص من التزاماته؛ وبذلك يقترب موعد الترشح للرئاسة, ويقدم نفسه مخلصاً للمنطقة من الإرهابيين السوريين والأجانب؛ ويصبح رئيساً للبلاد من جديد. ولا غرابة في فتحه معركة القلمون في تلك الفترة بالذات.. كذلك استغلت روسيا النقاهة الكيماوية السخية التي أعطيت إلى حليفها الأخرق, وأخذت ترسل الأسلحة والذخائر المتطورة والخبراء العسكريين مع تطور الحراك الثوري في خاصرتها الأوكرانية, في حين ضاعفت إيران دعمها المالي والعسكري له عبر قنواتها وجيوشها الطائفية المنتشرة في العالم.

هنا بدأ التحضير لعقد مؤتمر جنيف 2 لعل وعسى يحدث شيئاً إعجازياً يغير الأمور نحو الأحسن.. عُقد المؤتمر وانتهت جولته الثانية إلى لا شيء؛ ورغم ذلك لم يعترف الإبراهيمي بالفشل واكتفى بتقديم اعتذار خجول إلى السوريين المنكوبين؛ وبقي بان كي مون – القلق دائماً – مصراً على استمرار المحادثات للوصول إلى حل سلمي للأزمة المستعصية أصلاً على الحل. بدأت الأخبار تتوارد – عبر عدة وسائل إعلام غربية – عن تغيير إدارة أوباما لاستراتيجيتها السورية, من خلال التفكير جدياً بخيارات أخرى بعد مسلسل الكيماوي الطويل, وجولات مؤتمر جنيف 2 المملة التي يتحمل مسؤولية فشلها تعنت وفد الأسد وسلبيته المفرطة في التعاطي مع بنوده الأولية, بتغطية روسية واضحة لهذا الأمر بعد منع إيران من الحضور.. هذه الخيارات قد تكون بفرض منطقة حظر جوي أو بحري أو بتزويد الثوار المعتدلين بأسلحة نوعية تقلب موازين القوى لصالحهم وتجعلهم يتقدمون على الأرض, رغم عدم وجود تأكيدات صريحة بذلك من قبل المسؤولين الأمريكيين الرسميين.

مع ارتفاع حرارة التحدي على الجبهة الأوكرانية, وانشغال إدارة أوباما بإيجاد طريقة ما لإيقاف الدب الروسي عند حدود شبه جزيرة القرم, ومنعه من قضم المناطق الأخرى ذات الأغلبية الأرثوذكسية, لا أحد يعرف حتى الآن مدى مصداقية تلك الإدارة الفاشلة في تنفيذ ما سربته وسائل الإعلام عن هذا الموضوع؛ لكن من المؤكد أن حدة تصريحات مسؤوليها ارتفعت نسبياً تجاه الأسد كي يقدم تنازلات جديدة تبشر بإنهاء منظومة حكمه البربرية المجرمة.

لكن المثير للسخرية ردة الفعل الأوبامية تجاه تطويب شبه جزيرة القرم من قبل بوتين, إذ أعلنت وزارة خارجيته أنها أصدرت أمراً إلى السفير السوري لدى الأمم المتحدة بشار الجعفري بعدم الابتعاد عن مدينة نيويورك لأكثر من 40 كيلو متراً مثلما فُرض على سفيري إيران وكوريا الشمالية. وبعد عدة أيام أعلنت إدارته عن إيقاف عمل السفارة السورية في واشنطن والقنصليتين التابعتين لها في ميشيغان وتكساس، وطلبت من الدبلوماسيين العاملين هناك من غير الأميركيين مغادرة البلاد!

أجل, إن جميع الدلائل تبدو مخيبة للآمال ولا تشير إلى تقدم ملموس في السياسة الأمريكية تجاه "الأسد" الكيماوي, لاسيَّما مع الدعم الإيراني اللامحدود, وتعطيل الدبلوماسية الروسية لكل القرارات الدولية, وتقدم قواته النسبي على بعض الجبهات, وتعقد الأمور كثيراً مع بروز داعش كقوة لا يستهان بها دخلت المعركة لصالحه.

ماذا يستطيع الأسد أن يقدم من تنازلات في حال صدقت إدارة أوباما هذه المرة بالتعاطي جدياً معه, وعدم ترك الأمور تنحدر نحو الأسوأ؟ على ماذا يمكنه أن يساوم؟ ماذا بقي في جعبته – الفارغة أصلاً – حتى يقدمه بديلاً لأي إجراء عسكري أمريكي عقابي محتمل؟ هل يرضخ للضغوط أخيراً؟

لقد أعطي وقتاً كافياً وفرصاً كثيرة لا تعوض, لكن دون جدوى, فقد ضرب عرض الحائط بكل ما قُدم له من اقتراحات وحلول, مركزاً جل اهتمامه على أمور ثانوية, مثل المؤامرة الكونية ومكافحة الإرهاب والتكفيريين, رغم أنه هو نفسه المتآمر الأكبر على بلده, وأول من استخدم إرهاب منظومة دولته الأمنية والعسكرية ضد شعبه, ويعد مولداً للإرهاب ومصدراً له وحامياً للكثير من قياداته...

سد إجرام آل الأسد المتعاظم جميع الطرق أمام المبادرات السلمية الداخلية والخارجية, وجعل الحل السياسي مستحيلاً, مما فتح المجال واسعاً أمام جميع الجهات الإقليمية الطامحة للتدخل بالشأن السوري, وكأننا أصبحنا في بلد يشبه إلى حد بعيد العراق وأفغانستان والصومال...

سيستمر الأسد الجريح في عناده وجبروته رغم تلقيه ضربة موجعة بفتح جبهة الساحل وفقدانه أحد أهم دعائم أركانه في تلك المنطقة – زعيم الشبيحة ابن عمه هلال الأسد – ما دامت قواته ومرتزقته والمليشيات الطائفية تقاتل معه وتتقدم هنا وهناك؛ فهو لن يستسلم إلا بالقوة, ولن يفاوض أبداً على تنحيه من رأس الهرم السلطوي, ولن يقبل بحكومة انتقالية كاملة الصلاحيات...

الحرب في سورية حرب طويلة وصعبة, حرب مختلفة عن كل الحروب الأخرى, حرب مفتوحة على جميع الاحتمالات وليس لها قواعد أو قوانين, حرب تشارك فيها دول وتنظيمات وجهات لا يوجد بينها أي رابط أو لغة مشتركة, ولا مكان فيها للمقدسات والقيم الإنسانية, ولا فرصة للسياسة والدبلوماسية.. إنها حرب العالم الوقح من أجل إخماد ثورة شعب حر كان يمكنها أن تخلصه من وقاحته وازدواجيته ومراءاته, وترتقي به نحو الأفضل, وتغيره تغييراً تاماً...

التعليقات (2)

    هيثم احمد

    ·منذ 10 سنوات شهر
    ما يحصل في سورية هو حرب عالمية ثالثة و لكن عن طريق وكلاء لها في المنطقة

    Anas

    ·منذ 10 سنوات شهر
    بتصوري أنه يوجد خطة مرسومة لتقسيم سوريا. ان تعنت طرفي التفاوض المتعمد والﻻ مسؤول في الوصول الى حل. والاستمرار في حرب تدمير سوريا. والضغط الدولي على كلا الطرفين من أجل البقاء في حلقة التفاوض المفرغة على التوازي مع حرب القتل والتدمير وصوﻻ إلى التقسيم كهدف نهائي للعملية. ويتضح ذلك في فتح معركة الساحل لتأمين معبر بحري للدولة السنية. أرجو أن ﻻ يكون هذا التصور صحيح
2

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات