حمص العدية... لماذا ثارت ؟!

حمص العدية... لماذا ثارت ؟!
لحمص جاذبية إنسانية وشخصية لا تقاوم. هذا ما قالته أحاديث ومذكرات وكتابات بناتها وأبنائها النثرية والشعرية، الذين كانت ظروفهم قد اضطرتهم لمغادرتها . لكن البعد عنها لم يخمد حضورها في قلوبهم، بل أبقاها حية فيها، وجعلهم يتغنون بكل شيء حمصي، بما في ذلك حجارة براريها وبيوتها السوداء. ألم يقل شاعر مهجري من هؤلاء بحرقة الحسرة والشوق متغزلا بها: يا حمص يا أم الحجار السود، كأن الحجار السود، التي لطالما اعتبرت رمزا للشؤم، درر فريدة لا أجمل ولا أحلى.

 عوالم سياسية ثرية!

هذه " الحمصية " التي تكاد تكون "وطنية جامعة" قائمة بذاتها، ميزت أهل المدينة الأذكياء وجعلتهم طلاب معرفة وأدباء. وقد روى لي أستاذي الراحل انطون المقدسي حكايات حنونة عن الفترة التي قضاها هناك مدرسا مبتدئا للفلسفة، وقص تفاصيل عن اضطرابه وحيرته وكم ساعدته حوارات مقهى الروضة ونقاشات ومجادلات ومجاقرات مثقفي المدينة على تخطي لعثمات البوح الفلسفي الأول، وكم صار حمصيا بعد أشهر قليلة من وجوده في المدينة، بل وكم بقي حمصيا بقية حياته ، التي امتدت إلى نيف وتسعين عاما . كان الأستاذ الكبير يروي نكاتا حمصية موشاة بروح وطنية / مجتمعية زاهية وأصيلة، ويحكي قصصا بعضها هازل وبعضها الآخر جاد عن أسر شكلت في أواخر الثلاثينيات عوالم سياسية ثرية، متناقضة ومتعارضة ، أهمها آل الأتاسي: الأسرة / القبيلة التي برز منها ساسة ومثقفون وتكنوقراطيون بارزون ، ربما كان أكثرهم أهمية في تشكيل وعي وسياسة السوريين المعاصرين الراحل الكبير جمال الأتاسي، الذي حار وهو طالب في كلية الطب في ما يجب فعله لطرد الفرنسيين من سوريا، فهو تارة يترك دمشق ويلتحق برشيد عالي الكيلاني في العراق، قبل أن يعود إليها لينضم إلى الدرك الوطني المؤسس حديثا برتبة دركي بياده (اي راجل)، ثم لا يلبث أن يذهب إلى فلسطين مقاتلا شبه أعزل ضد الصهاينة، وينضم أخيرا إلى حزب البعث ويبتكر صيغة " الأمة العربية الواحدة ذات الرسالة الخالدة "، التي نسبت خطأ إلى عفلق، وينتهي أخيرا مناضلا ناصريا وحدويا وقائدا للمعارضة السورية الديموقراطية ضد البعث المنحرف عن أهدافه التاريخية الأصلية، بعد حقبة لم يستقر فيها على حال، مر خلالها بالماركسية فالوجودية فنزعة علمانية إنسانية طاولت كل ما هو نبيل وحي في الروح والقلب: روح وقلب إنسان جسم، مع صديقه أنطون المقدسي، اليبرودي المسيحي المتدين، أكثر من أي شخص آخر روح سوريا خلال حقبة من أغني واكثر حقبها حراكا وانفتاحا وتنوعا ونضالية، على امتداد قرن كامل وحافل.

اهتمام وحراك ثقافي وسياسي متنوع، تقدمي وإنساني وعروبي على وجه الإجمال ، بما في ذلك عند معظم الإسلاميين والليبراليين. ونظرة ساخرة إلى الوجود جعلت من الأربعاء يوما يعتبره السوريون يوما يحتفي الحماصنة فيه ب"بتفردهم" الذكي والمرح، الهازيء من كل شيء بما في ذلك "النفس الحمصية " متفاعل مع وطنية أصيلة، جعلت من إحسان الحصني المسيحي، مدير الميرة في حمص اثناء الثورة ضد الانتداب الفرنسي، أبا روحيا لنظير نشواتي، بطل الثورة المسلم، وممولا رئيسا – على كيس الفرنسيين - لثوار المدينة وريفها، وحاميا لهؤلاء وناصحا لهم لا يرد له أمر، انتخبته حمص نائبا عنها مطالع الخمسينيات على قائمة صديقه الحموي أكرم الحوراني، فهو كصديقه الكبير رمز للحراك المعادي للإقطاع وللظلم الاجتماعي والنخبوية السياسية المغلقة أمام الفقير والكادح في المدينة والريف، مع أنه كان مثقفا ألمعيا ومترجما متمكنا ورجلا يتذكر أصدقاؤه اليوم أيضا: بعد سنوات من غيابه، تعليقاته اللاذعة والغنية بالدلالات والمعاني، التي ذهبت دوما من خصوصية تتصل بحال ضيقة إلى عمومية تصب في أوضاع عامة ، ولم تترك شيئا إلا وعرته وفضحت ما فيه من زيف وادعاء، خاصة أثناء سنوات حياته الأخيرة، التي آلمه كثيرا خلالها ما فعلته السلطة البعثية بالشعب السوري وبالفلسطينيين واللبنانيين والعراقيين، وبالمعرفة والثقافة، وبكل شيء بلا استثناء، لذلك يقول من لازموه في سنواته الأخيرة أنه مات كمدا، ثم تبعه بعد حين صديقه المصيافي المثقف والمرهف علي الخش، الذي أمضى فترة طويلة من شبابه جائعا، لأنه كان معلما شبه متطوع في مدارس أسسها أكرم الحوراني وحزبه لتحرير الفلاحين من الإقطاع، وبناتهم وأبنائهم من الجهل والأمية.

 استهداف السلام الروحي!

هذه الـ "حمص" ، التي تقع بين فتحة أرضية واسعة تطل على البحر، وبين الصحراء ، وتعيش على شيء من الصناعة – مصفاة ومصنع سماد آزوتي ومعمل سكر ومحالج قطن – وكثير من الزراعة والتجارة ، وكثير جدا من السياسة والثقافة والانفتاح والتاريخ ، والتي ينتصب في منتصفها جامع سيدي خالد ، بطل الإسلام الكبير وأعظم قادة التاريخ العسكري العربي / الإسلامي ، الذي دخلها سلما بفضل أبناء عمومته: سكانها المسيحيون، وعاشت في سلام داخل أحياء يدخل إليها من أبواب حملت حاراتها أسماءها، أو حملت هي أسماء حاراتها، عاشت قبل الثورة خمودا تنمويا واجتماعيا امتد لفترة طويلة، لانها تعرضت خلال العقد الأخير لهجمة تحديث ليبرالي جديد اقتلع سلامها الروحي وقوض مصالح أهلها ومس جذورهم الجماعية والفردية، وأحل محلها، دفعة واحدة ودون مقدمات، نمطا من العيش استهلاكيا وفاجرا ومسرفا واقلويا وسلطويا، مصحوبا بفساد يومي وشامل لم تعرف مثيلا له في اي تاريخ سابق، قاده محافظ شاب، قليل الخبرة وافر الغرور والاستخفاف بالناس، اسمه إياد غزال، صديق رئيس سوريا الجديد آنذاك الدكتور بشار الأسد وخليله ومحل ثقته منذ الطفولة والمدرسة، الذي منحه صلاحيات غير محدودة جعلت منه قيصر مدينة مليئة بمشكلات مزمنة، أراد أن يجعل منها ضربا من دبي سورية، ولكن على حساب المعوزين من أهلها، لذلك وضع يده على قسم كبير من الأراضي الزراعية التي بداخلها ، حيث قرر بناء فيلات جد مترفة، هوليوودية المستوى، عليها، لا محل لأي حمصي عادي فيها، استوحاها من نمط هندسة قطري شاع آنذاك في كل مكان، ودمر قسما مهما من شاطيء اللاذقية الأزرق، حيث اقام فيلات ثمن الواحدة منها ما بين خمسة وخمسة وعشرين مليون دولارا، أميركيا بالطبع، ثم سيجها وعزلها عن بقية المنطقة وحرسها بمسلحين فرضوا سطوتهم على العباد، و"خواتهم" حتى على المارة، هم أسلاف الشبيحة الحاليين ممن أبعدوا الشعب المتطفل أو الفضولي عنها، وأشعروه بقهر أقنعه أنه صارغريبا في وطن لطالما قالت حكومته أنه ملكه وحده.

 كوارث التطوير والتحديث!

طرد المحافظ الحداثي سكان الغوطة والوعر من أرضهم بالقوة ، كلما تطلب الأمر، ورفض استقبالهم وتسلم عرائضهم وتظلماتهم خلال أشهر وسنوات طويلة تحولوا خلالها إما إلى مشردين أو مهددين بالتشرد، ومقهورين ومؤهلين للانفجار، تزايدت أعدادهم باضطراد ، بينما كان نمط استهلاك وضع آل الأخرس، أسرة حرم الرئيس بشار الأسد ، يقوّض وجود صغار الكسبة والتجار ومتعيشي أسواق خبا نشاطها أكثر فأكثر لصالح محال كبرى نبتت كالفطر على أطراف المدينة، الغارقة في الذهول والحرمان والغضب.

في هذه الأثناء، كان قلب المدينة القديم ينتهك بدوره ويعاد تنظيمه لمصلحة قبضة من تجار البناء والمضاربين بالأرض وشركاء رجال السلطة، الذين لم يراعوا بدورهم احتجاجات واحتياجات أصحاب الأرض والبيوت والمحلات الأصليين، اقتداءا بتحديث عبد الله الدردري المسمى "اقتصاد السوق – كان السوريون يسمونه ساخرين: "السوء الاجتماعي"، الذي عمق كثيرا طابع الاقتصاد الريعي، وقوض قطاعات واسعة ومتنوعة من الاقتصاد الإنتاجي السوري، ودحش البلد دحشا في علاقات وبيئات اقتصادية غير متكافئة اخذت شكل انفتاح اقتصادي لا قيد عليه مع الخارج، دمر بصورة متزايدة مقومات الاقتصاد الوطني السوري، حتى أن عددا كبيرا من رجال الصناعة الحلبيين ارسلوا عام 2008 رسالة إلى رئيس الوزراء ناجي العطري يهددون فيها بإغلاق مصانعهم ورمي العمال في الطريق والتحول إلى تجار سلع صينية مستوردة، أسوة بغيرهم من التجار الأتراك والمحليين الذين يغزون سوريا بسلع كهذه.

كان تحديث المحافظ يطرد الفلاحين من أرضهم ويقوض الزراعة، وكان الدردري يقول في تصريحات رسمية كثُر الاحتفاء الإعلامي بها: إن الزراعة ليست قطاعا اقتصاديا يعتمد عليه ، متجاهلا أن 40% من سكان سوريا يعيشون منه ، فلا عجب أن انفجر رئيس "اتحاد الفلاحين" الرسمي والمخابراتي خلال مؤتمر الاتحاد عام 2008 وهو يسأل العطري إن كانت الدولة قد قررت القضاء على الزراعة والفلاحين ، ولا غرابة في الصراخ الغاضب الذي أطلقه مندوب محافظة اللاذقية إلى المؤتمر في وجه رئيس الوزراء وهو يقول : لم يبق لدينا أرض نزرعها، لقد استملتكم كل شبر وطردتم الفلاحين من أراضيهم ، وجعلتم ثمن الدونم الواحد منها بين عشرة وعشرين مليون ليرة سورية. لقد افسدتمونا وقتلتم الفلاح وقضيتم على الزراعة.

 استربتيز عمراني في قلب المدينة التاريخي!

راجع الحمصيون المسؤولين وتظلموا وشكوا أمرهم، دون جدوى . قصدوا القصر الرئاسي فلم يستمع إليهم أحد، لأن نشوة النمط الاستهلاكي كانت قد أسكرت ساكنه، وأرقام وزارة السياحة الكاذبة عن عشرات ملايين السياح ومليارات الدولارات قد لعبت برأسه، ولأنه اعتقد أنه ضرب ضربته وانتهى الأمر، وأن المجتمع لن يتحرك أو يجد في نفسه الجرأة على الاحتجاج، ناهيك عن التحرك، ما دامت قبضة الأمن كلية الحضور في كل مكان، تطبق بقوة على أعناق المواطنين وتتربص بحركاتهم وسكناتهم.

كان التحديث يوسع الهوة بين المحافظ وناس حمص، ويدفعه إلى التعامل معهم بأعلى قدر من التعالي والاستخفاف، واستفزازهم بحفلاته الفاجرة وفساده و" برجوازيته "، ويشجعه على التدخل المفتوح والسلطوي في كل كبيرة وصغيرة من شؤونهم ، بالطريقة التي يصعب أن يتقبلها حتى المواطن الذليل ، في حين كان قلب حمص التاريخي يمارس الستربتيز العمراني، وقصور ومكاتب اهل السلطة تذكر الشعب بمثيلات لها بناها مستوطنون مسلحون وغرباء في مجاهل أميركا اللاتينية واعماق أفريقيا وآسيا ، وحموها بالقوة كي يمنعوا الشعب من إلقاء نظرة على ما بداخلها او من الاقتراب منها . اسهم المحافظ والحاشية التي أحاطت به ، وتتألف في معظمها من أسر وأثرياء اقتصاد الانفتاح الليبرالي الأعمى الجدد ، في تأسيس ظاهرة افلتت من أي قيد ، بدا معها وكأن البلاد تنقسم إلى أمتين ومجتمعين وشعبين ، يمتص أحدهما دم الآخر ويعامله بازدراء وتعال وعنف، ويضع المسدس على صدغه ويجبره على الوقوف متفرجا على انتهاك حياته وحقوقه، بينما وجهه إلى الحائط ويداه مرفوعتان فوق رأسه، يقتله العوز ويرهبه الفقر، لم يبق لديه اي مخرج من مأزقه غير خروجه على المحافظ ونظامه قاتلا أو مقتولا، وسيفه بيده.

 قنبلة الظلم الموقوتة!

كان الحماصنة نهبا للشعور بظلم لا يستحقونه، وكانوا يتساؤلون: لماذا ندفع ثمن تحديث لا نريده ولا مبرر لأن نكون ضحاياه؟ ولماذا يصير غيرنا غنيا من التحديث ونصير نحن فقراء دون ملكية أو حقوق؟ وكانت أسئلتهم تنتظر من يرد عليها بتفهم عادل. وقد انتظروا طويلا، دون جدوى. أخيرا، وحين ملوا الانتظار وضجروا من العيش مع اليأس والذل، انفجروا كالقنبلة الموقوتة ودخلوا في رهان على خلاص، يعلمون أن لفشله بديلا واحدا هو الموت تحت أنقاض منازلهم أو في شوارع المدينة، التي بدأت الجرافات بتدميرها باسم التحديث، ويكمل القتلة اليوم عملها بإزهاق أرواحهم هم أنفسهم، بحجة قمع مؤامرة انخرطوا فيها خدمة للأصوليين وأعداء الوطن، لا علاج لها غير قتلهم بالمدافع والدبابات والطائرات والصواريخ!

التعليقات (7)

    همام البني

    ·منذ 11 سنة 5 أشهر
    الاستاذ ميشيل كيلو كتب الملف و كانه يعيش في حمص مع اهلها لحظة بلحظة يشعر بعمق معانتهم ..... توصيف مبدع لسؤال لم يحير أحد ( حمص العدية... لماذا ثارت ؟! ) من لم يشكر الناس لم يشكر الله ........ كل الشكر و المحبة لموقع الأورينت.

    ديري ثورجي

    ·منذ 11 سنة 5 أشهر
    انه ليس فقط محافظ حمص المجرم من كان سبب الثورة الحمصية خاصة والثورة السورية عامة انه نظام العصابة العلوية ومرتزقتها من التجار والمجرمين والجبناء والخانعين والأنذال من ابناء السنة وفي كافة المحافظات ونحن لم ولن ننسى كيف صمت حلب اذانها على نداءات الثوار السوريين بان تلتحق بالثورة ولم ترد علينا وكذالك باقي المحافظات الجبانة الخانعة الى يومنا هذا نحن نقول لهؤلاء اننا منتصرون وان العقاب سيكون وكأنه فتحت عليهم ابواب جهنم

    أكرم عيسى

    ·منذ 11 سنة 5 أشهر
    دراسة رائعة... الأستاذ ميشيل وطني أصيل يحفظ معاناة السوريين بكل تفاصيلها ويكتبها بكل دقة وأمانة وبلاغة

    احمد مصالحة - مدينة الناصرة (فلسطين المحتلة)

    ·منذ 11 سنة 5 أشهر
    عاشت سورية حرة أبية

    انور احمد

    ·منذ 11 سنة 5 أشهر
    المشكلة انهم لم يفهموا التاريخ ابدا ان لكل ظلم نهاية وكل جبار مقتل

    ahabeb48

    ·منذ 11 سنة 5 أشهر
    من حق ميشيل كيلو ان يكتب ونحن نقرأ له لانه عانى معاناة كل السوريين ونبه من ظلم النظام منذ بداية السبيعنات ومازلت اذكر كلامه عن النظام ودكتاتوريته منذ ذلك الوقت

    حسان الحمصي

    ·منذ 11 سنة 5 أشهر
    حضرت للسيد ميشيل كيلو أمسية ثورية ثقافية تحدث فيها عن تجربته ومعانته مع نظام بشار الأسد ولمست وقتها تواضعه وأخلاقه الحميدة ووعيه السياسي والفكري. برأي هو شخصية وطنية تمثل شريحة كبيرة من المجتمع السوري. أتمنى له ولإبنه الذي يخضع للعلاج في فرنسا كل الخير والصحة والشفاء العاجل، وإلى لقاء قريب بإذن الله في سوريا الحرة.
7

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات