إعلاميونا الأغرار... إنّكم تغتالون ثورتنا!

إعلاميونا الأغرار... إنّكم تغتالون ثورتنا!
كلّما تابعت واقع إعلام النظام، وطريقته في التعاطي مع الثورة السورية، ازددت قناعة بأن النظام السوري يستوحي خططه في إدارة معركته الإعلامية من كلمات أغنية المطرب غسان صليبا، التي يقول فيها: "وحياة ولادي ما حاكيتا"، ففي أغنيته اللطيفة، يتحدّث غسّان صليبا عن الناس الذين "ما سكتوا تا حبيتا"، في إشارةٍ إلى دور الإلحاح في التأكيد على مسألة ما، في تثبيت الفكرة بالفعل، أو الإيحاء بتثبيتها.

هذه الطريقة تسمى في علم النفس "القابلية للإيحاء"، والتي تعرّف على أنها "حالة من الاعتماد النفسي على شخص آخر، يتم خلالها تقبل أفكاره في سلبية واضحة واستلاب إرادة، دون أدنى مناقشة مع الاقتناع التام بها دون تفكير"، والتي تندرج تحت إطار الحرب النفسية، وهي الطريقة التي لجأ إليها النظام السوري في إدارة معركته الإعلامية، والتي حققت له نجاحاً في معركته الإعلامية؛ هذا النجاح الذي ما كان ليتمكّن من تحقيقه، لولا فشل الآخر، في المعركة ذاتها،على الضفة الأخرى.

فمنذ البدايات، وفي وقت لم تكن فيه بعض المناطق قد بدأت حتى بالتظاهر ضدّ النظام، لجأ الإعلام الرسميّ للحديث عمّا أسماه "التضليل الإعلامي"، والذي أفرد له مساحات واسعة عبر قنواته الفضائية كافة، والقنوات التي تلوذ به، سواء أكانت سورية كقناة "الدنيا"، أو القنوات اللبنانية التي تسير في ركابه كـ"المنار"، "الجديد" ،"N.B.N"، ومثيلاتها من قنوات، ترتبط مصالح مالكيها بديمومة الطغمة الحاكمة في سوريا. في ذلك الوقت انقسم الجمهور السوري إلى قسمين: قسم مصدّق لما يسرّب إليه عن إعلام الثورة "الكاذب"، و"اختلاقه لأحداث غير موجودة أساساً"، وهو ما أملته عليه "قابليته للإيحاء"، من ناحية أخرى، ثمّة من كذّب كلّ ما كانت تبثه وسائل الإعلام من تقارير، لا لأنّه يمتلك زمام الحقيقة، بل لأنّه مقتنع تماماً بأن الإعلام السوري، يكذب حتى في درجات الحرارة، وبذلك تمكّن النظام من تقسيم نسيج المجتمع السوري، ورسم خطوط واضحة بين مؤيّديه ومعارضيه، وكان من السهل جداً أن تنفصل زوجة عن زوجها، لمجرّد أنه يتابع قناة "الدنيا"، على سبيل المثال.

بعد نجاحه في تقسيم المجتمع، من خلال تأكيده على فكرة "التضليل الإعلامي"، وإقناع بعض المتلقين بأن ما يقوله النظام هو عين الحقيقة، وما يتداوله الإعلام "المغرض" ما هو إلا محض أكاذيب، لجأ الإعلام الرّسمي إلى التأكيد على فكرة "أسلمة الثورة"، وأن الثوار ما هم إلا مرتزقة لدول الخليج ، التي لطالما وسموها بالـ"وهابية"، وأنهم عبارة عن بعض المتطرّفين، الذين يطمحون إلى تقويض الدولة السورية، ليحلّوا محلّها "دولة إسلامية تكفيرية"، وأنهم مجموعة من شذّاذ الآفاق الذين تمّ شراء ذممهم من قبل بعض الدول النفطية، المتآمرة على سوريا، لتنفيذ عمليات إرهابية تحت ستار الإسلام، حتى أنّ تقارير التلفزيون السوري، راحت تتحدّث عن انتشار "جبهة النصرة" في سوريا، وعن هيمنتها على الحراك العسكري للمعارضة، في وقت كان فيه الجيش الحرّ، والذي يتضمّن عناصر من كافة أطياف المجتمع السوري- خاصة وأنه كان يضمّ جميع العناصر المنشقة عن الجيش السوري- يحقّق انتصارات واسعة على الأرض، ما أدّى إلى تهميش دور الجيش الحرّ، بسبب حجب الدعم عنه، بحجة "تجفيف منابع الإرهاب"، من قبل الدول الغربية، فيما ازداد دعم الجماعات الإسلامية الراديكالية، وتمّ للنظام ما كان يريده بالفعل، وتمّ تأكيد مقولته التي لطالما تناولها إعلامه الرسمي منذ البدايات، غير أنّ الإنجاز الأكبر الذي حقّقه النظام، يكمن في مقدرته على "تشظية المجتمع السوري"، وتقسيمه إلى مكوّنات إثنية وطائفية وعرقية، حيث أنّه تمكّن من تسويق نفسه كحامٍ للأقليات، في وقت تسعى فيه الأكثرية "من خلال تنظيماتها المتطرّفة" إلى القضاء على كلّ المكونات الأخرى في المجتمع السوري!

في ظلّ الأجندة الإعلامية الخبيثة لإعلام النظام، والتي يدير ماكينتها شخصيات من أمثال "رفيق لطف"، تغيب الأجندة الإعلامية للمعارضة السورية عن الساحة تماماً، وتغيب المرجعية الإعلامية الحقيقية، فالركيزة الأساسية للإعلام المعارض هي ما يتناقله الناشطون، الذين غالباً ما يحملون أسماء حركية- بسبب استهدافهم من كافة الأطراف، والفصائل العاملة على الأرض، فضلاً عن النظام- ولكن هذا الأمر ليس إيجابياً تماماً، لأنه يعطي المجال للتملّص من الالتزام الأخلاقي تجاه المتلقّي، وكذلك عدم وجود أسماء معروفة، لها مصداقيتها، كي تساهم في تسويق قضية الشعب السوري بالطّرق اللائقة.

ولأنّ الرّكيزة خاطئة، فالنتائج أحياناً تكون كارثية، ولصالح النظام تماماً، إذ أنّه وخلال فترة بسيطة حصلت عدة حوادث، قد يراها البعض بسيطة، ولكنّها تسوّق ما يحصل في سوريا بشكل سلبي جداً أمام المحافل الدولية، المثال الأول هو ظهور فيديو مصوّر لفتاتين سوريتين اسمهما فايا وريحان يونان، تغنيان مقاطع مقتطفة من أغنيات معروفة للسيدة فيروز، وتتخللّهما محاضرات على غرار تلك الندوات التثقيفية التي اعتاد أن يقدّمها التلفزيون السوري. الفتاتان تتمتّعان بمظهر جميل، وظهرتا بزينة تبرز جمالهما- على عكس المظهر البسيط الذي ظهرت فيه وئام بدرخان خلال مهرجان كان، أثناء عرض فيلم ماء الفضة مثلاً- كتسويق لما تنويان قوله، وقدّمتا مشروعاً لا يحمل أيّ بصمات، مغرق في العموميات، ومقاربة ما يحدث في سوريا بفلسطين والعراق ولبنان، لتقولا مقولتهما الأخيرة في حلقة من برنامج بيت القصيد على قناة الميادين، التي لا يخفى على أحد مرجعيتها، وتسويقها للنظام، وبهذا يكون إعلام الثورة، قد سوّق للفيديو الذي سيدينه، ويدين عمالته لأمريكا وإسرائيل اللتان حملتهما الفتاتان مسؤولية "الإرهاب" في الفيديو ذاته!

أما الحادثة الثانية، فهي تداول فيديو حول طفل يحتال، ويتظاهر بالموت لإنقاذ شقيقته المصابة بطلقةٍ من قناص، ليتضّح أن الفيديو مقتطع من فيلم لمخرج نرويجي، الغاية منه التذكير بمعاناة الطفل السوري، وبعد تصريح من المخرج النرويجي لقناة “B.B.C” عن أن المقطع مجتزأ من فيلم يتمّ تصويره في مالطا.

طبعاً، النوايا النبيلة لا تكفي وحدها، فهذا السبق الإعلامي له دور في تقويض مصداقية إعلام المعارضة، وإقناع المجتمع الدولي بأنّ ما يقدّم من فيديوهات عن الفظائع التي تحدث في سوريا ما هو إلا محض أكاذيب، وأنّ الصورة الحقيقية هي تلك التي يقدّمها إعلام النظام، خاصة وأنّه يؤكّد على فكرة التضليل الإعلامي الذي تمارسه المعارضة.

إضافة إلى حادثة لا تقلّ أهمية عن سابقتيها، ففي حين تناقل ناشطون من أبناء مدينة حمص نبأ الكشف عن مقبرة جماعية، في حي بابا عمرو، الذي ظلّ محاصراً لفترة طويلة، والذي ارتكبت فيه مجازر مروّعة من قبل قوات النظام قبيل اقتحامه، والحديث عن أنّ هذه المقبرة ضمّت جثثاً تعود لأفراد من سبعين عائلة، وأنّ انجرافاً في التربة قد أسفر في الكشف عن هذه المقبرة، في منطقة تشهد سيطرة أمنية مطبقة، يتم إرفاق صورٍ مأخوذة من مقابر جماعية في مدينة سربينيتشا البوسنية، على أنها للمقبرة الجماعية تلك.

من الطبيعي أن يكون التقاط صور للمقبرة الجماعية أشبه بالمستحيل، في ظل سيطرة الأمن والشبيحة، وقوات حزب الله المجرمة، على كافة مفاصل الحياة في مدينة حمص، ولكن الحلّ بالتأكيد لا يكمن في تداول صورة من مذبحة هي الأشهر في العصر الحديث، على أنها ملتقطة من موقع الحدث.

ويبقى العامل الأهم في ضياع حقوق الكثيرين من أبناء هذه الثورة، ممن انتموا لها، وقدّموا أغلى ما يملكون، هو غياب المرجعية الإعلامية المسؤولة، والتي تستطيع تقديم معاناتهم بالطريقة التي تليق بها، وتقديمها للمجتمع الدولي بالطريقة الأمثل. بعيداً عن إعلام الأجندات، الذي يتركّز اهتمامه على تصوير معركة افتراضية، ونشر فيديو، يتلقى معه دعماً مالياً، ضارباً بعرض الحائط مصير من يعانون حقيقة من تبعات هذه الإجراءات.

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات