عشر سنوات مرت على رحيل ياسر عرفات في مثل هذا الشهر في الحادي عشر من شهر تشرين الثاني / نوفمبر... ومحطات العلاقة بينه وبين حافظ الأسد، تبدو الأكثر إثارة ودراماتيكة في شخصية الراحل!
إثارة وصلت إلى حد الإعلان عبر التلفزيون السوري في الرابع والعشرين من شهر حزيران 1983 أن عرفات شخص غير مرغوب به في دمشق.. وعليه أن يغادر الأراضي السورية خلال أربع وعشرين ساعة!
إعلان كان المقصود به هو الإهانة، لأنه بالإمكان إيصال الرسالة ذاتها بطريقة أخرى... لكن عرفات حقائبه وينطلق عبر مطار دمشق الدولي، حاملا الكثير من الذكريات المؤلمة مع نظام البعث و حافظ الأسد شخصيا، الذي كرس كل ما يملكه من سلطة عبر سنين ترقيه على سلم القيادة السورية، لهدف الركوب على أكتاف القضية الفلسطينية والاتجار بها، من أجل صناعة مشروع زعيم قومي في الخارج، وطاغية دموي في الداخل!
سلسلة من النكسات البعثية بحق عرفات شخصيا والقضية الفلسطينية عموما، كانت كافية لخلق هذا الكره العرفاتي لنظام الأسد البعثي، تبدأ مع كانون الأول /ديسمبر 1964 عندما اعتُقل الزعيم الفلسطيني من قبل مفرزة تابعة للمخابرات العسكرية السورية, التهمة التي وجهت لعرفات في ذلك الوقت كانت "التخطيط لأعمال تخريبية"، وثقت عبر ما وجد في صندوق سيارته من أصابع ديناميت.
خرج عرفات بعد ساعات من الاعتقال، إلا أن الواقعة سجلت صعقة للزعيم الفلسطيني المتعاون أساسا من القيادة السورية التي منحته حق نقل مختلف أنواع الأسلحة لمعسكرات فتح المنتشرة في سوريا.
تقول الرواية التاريخية، أن الاعتقال ما كان ليحدث لولا الأوامر التي صدرت من اللواء "حافظ الأسد"، صاحب النفوذ الكبير في أجهزة المخابرات السورية في ذلك الوقت، الذي حاول أن يفهم عرفات أنه صاحب الكلمة في القيادة العسكرية السورية.
يبدأ العداء هنا بين الأسد وعرفات، فالأول كما العادة يحاول أن يحول كل ما يؤثر من قضايا عربية إلى أوراق لعب ،يغذي بها خططه الطموحة نحو سلطة أوسع له، أما الثاني فكان مصرا على بقاء القرار الفلسطيني خارج سلطة أحد، وهو ما استدعى مرة أخرى رغبة الأسد في القضاء على عرفات، لكن هذه المرة عبر محاولة اغتيال في أيار /مايو 1966 إثر رغبة عرفات بالاجتماع مع أحمد جبريل في دمشق، إلا أنها فشلت لأن عرفات تغيب بعد معرفته بالمخطط المدبر له.
الأسد يحكم سوريا في عام 1971، وتبدأ مع عامه الأول المعركة الشاملة ضد الوجود الفلسطيني في الأردن، لتكون الفرصة أمامه ليقضي على عرفات تماما ،فيغلق الحدود البرية أمام الفلسطينيين "الفدائيين "، كاسباً بذلك صمت الولايات المتحدة وإسرائيل، عن التدخل الواسع لسوريا في لبنان.
يستغل الأسد تقهقر عرفات أمام عمليات "السلام" المقترحة وقبوله بخطة (ريغان)، فيحاول شق الصف الفلسطيني، أثناء اجتماع المجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر 1983.
الأسد ظن أنه نجح في شق الصف الفلسطيني بعد تمرد أحمد جبريل، وتعاونه مع نظامي البعث ومعمر القذافي في السعي لتصفية عرفات وقصف مواقع له في مخيمي شاتيلا و برج البراجنة بلبنان، إلا أن عرفات وجه له الصفعة الأكبر بظهوره المفاجئ بدمشق و تفاوضه مع المتمردين عليه ليحاول الأسد اغتياله مرة أخرى أثناء توجهه إلى طرابلس، إلا أن عرفات كان مصرا على الصمود، ولم يذهب في الموكب المسافر بل ظهر في مؤتمر الأدباء العرب بدمشق مرة أخرى.
عرفات يودع دمشق، وفي جعبته الكثير عن نظام الأسد الذي ضيق على كل القيادات الفلسطينية، كما يذكر آلان هارت في كتابه "عرفات" على لسان القيادي الفلسطيني الشهير جورج حبش الذي قال للزعيم الراحل:
" يا الله يا أبو عمار! إذا كنتَ أنت تغادر دمشق هكذا، فكيف سأغادرها أنا؟ ربما في كفن".
يقول آلان هارت أيضا: "عرفات هو رجل الأسرار، فلو لم يحط نفسه بالغموض، لما تمكن النجاة من المحاولات العديدة للنيل من حياته".
نعم ربما سرية عرفات بتعامله مع نظام الأسد، واحتفاظه بشعرة معاوية مع خصومه حتى اللحظة الأخيرة، هي التي جعلته يأتي إلى دمشق معزياً في حافظ الأسد إثر إعلان وفاته في حزيران عام 2000.. لقد أتى عرفات ليعزي برجل... يصح فيه قول المتنبي:
ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى عدوا له ما من صداقته بدُّ!
رجلٌ... طالما حاول التخلص منه، باعتباره كان أكثر الرجال الذين أربكوا خططه، وكشفوا طموحاته التسلطية على القضايا العربية.
التعليقات (7)