ابتسمتُ بعد تلك الإجابة كوني أعرف سبباً آخر فأجاب بصوت هامس: بصراحة، الرؤيا العامة للبلد لاتريد إظهار المحجبة في الإعلام أو الدراما! طبعاً مثل هذا السؤال وتلك الإجابة لايمكن أن تمر في زواريب النشر السورية آنئذ.
وأذكر في هذا السياق أن فتاة محجبة متمكنة من اللغة العربية، ولها كاريزما مذيعة مقنعة، ذات حضور لطيف ووجه قريب من المشاهد، يمكن وصفها أنها جميلة جداً، تقدمت إلى لجنة اختيار المذيعات في التلفزيون السوري فسألها أحد أعضاء اللجنة: هل لديكِ استعداد لتخلعي الحجاب إن نجحت في الاختبار؟ ردت مستغربة: لماذا؟ ضحكوا جميعاً، قائلين: هل تريدين أن تكون واجهة البلد محجبات؟
قراءة الواقع السوري تكشف أنه في عهد الطاغية الأب مُنعت كثير من المهن عن السوريات المحجبات فترة طويلة: مضيفات الطيران، وسلك الجيش والشرطة، والتمثيل والمعهد العالي للمسرح والموسيقا والرياضة، وتمّ مع تقادم الزمن إشاعة آلية تفكير ومنهج حياة تكرس فكرة أن المحجبة يجب ألا تهتم في الشأن العام، وفي هذا الإطار نكاد لانجد كاتبة محجبة عبر فترة رئاسة الطاغية الأب، فمن لاتتمرد على بيئتها الأقرب لايمكنها أن تكتب نصاً عن الجماهير؛ كما كان يصرح كتاب محسوبون على وعي حزب البعث المتهالك!
وبقي الموقف من الحجاب في سورية، فترة طويلة، مثل الموقف من الطائفية، استعلاء عن الحديث عنه أمام الناس، وتجاوز لكون الموضوع لا يستحق الحديث، وفي الوقت نفسه ممارسات مخفية بحق المؤمنات به، وفي الوقت نفسه وجد السوريون أن الكثير من المحجبات قد أزلنه مقابل الوصول إلى موقع ما! وبقي في إطار الحديث السري أنه لايمكن لأي محجبة أن تكون في موقع قيادي، مع أن الحديث المعلن هو أن الحجاب شأن شخصي يحدّد أولويته كل شخص حسب قناعته وفهمه ومعتقده!
ولم يجرؤ أحد على توجيه سؤال حول أسباب منعه، كان في حُكم الأشياء المعروفة المسكوت عنها، مثل فساد أجهزة المخابرات ووضع القضاء في رعاية مخابراتية وسيطرة شريحة محددة على الجيش ومواقعه القيادية خاصة.
وهذا الموقف من الحجاب لدى نظام الأب الديكتاتور ظهر أول مرة بصفاقة دوّنها التاريخ، يوم قامت متحمسات دورة المظليين في عام 1981 برعاية رفعت الأسد وسرايا دفاعه بنزع حجاب عدد من النساء في دمشق، غير أن الموقف الشعبي الرافض لتلك الممارسة دفع الطاغية الأب للقول في اليوم التالي في نوع من الاعتذار المبطن الماكر: (هؤلاء أمهاتنا وأخواتنا وبناتنا، نحن نحترمهن.. بعض بناتنا المتحمسات لا يرضيهن ما يحدث للمرأة من تهميش وانغلاق.. يجب أن تقوم المنظمات الشعبية وبخاصة الاتحاد النسائي بدورها في تربية جيل متحرر) يحاول كثيرون استذكار ذلك الموقف من الديكتاتور حافظ الأسد من خلال الحديث عن مكره وغباء ابنه، حيث يقولون لو مر معه مامر مع ابنه لذهب إلى درعا بنفسه، يريدون القول: إن الطوفان السوري سيتوقف إن أطفؤوا إحدى شراراته!
ثم أصدر الديكتاتور حافظ الأسد قراراً بالسماح بالحجاب في المدارس، وفي الوقت نفسه بضرورة خلعه في دروس التربية العسكرية والرياضية..واجتماعات حزب البعث، حيث تولت منظماته محاولة إشاعة مثل هذه الثقافة التي وجدت قبولاً لدى فئة من السوريين، غير أنها استُقبِلت بالنفور لدى شريحة كبيرة كونها تتعدى على حرماتهم الاجتماعية والدينية والفكرية. ومثل هذا التخبط والمكر عايشه السوريون في قضية أخرى هي قضية لواء إسكندرون، فقد كانت توضع في خارطة المناهج المدرسية، ثم تُزال، ثم توضع مرة أخرى، وكذلك الدرس المخصص له، وينطبق ذلك على إظهارها في الخارطة الرسمية في التلفزيون تبعاً لسوق المتاجرة الذي كان يجيده الأب، وهو يؤكد – وقد أكدته الأيام- أن كل شيء يقبل المراهنة والمفاوضة، لامبادئ لدى النظام الذي يحكم الدولة، كل شيء يتعامل معه بصفته فناً ممكناً سياسياً يقبل المتاجرة، المهم البقاء على الكرسي ومنافعه!
وفي عهد بشار الأسد اتُخِذَ قرار بخلع الحجاب في المدارس، بقي تطبيقه مطاطاً من مدرسة إلى أخرى، ومن بيئة إلى أخرى، ومن محافظة إلى أخرى، وهكذا ظل النظام يلعب على هذا الوتر يريد أن يسوِّق نفسه على أنه نظام علماني (بئس النظام العلماني الذي يعتقد أن علمانيته تكمن في إجبار النساء على التخلي عن الحجاب، وكأن العلمانية عند هذا النظام صارت تعني الإكراه والإجبار، إكراه فئة معينة على الأخذ بعادات وتقاليد فئة أخرى في المجتمع السوري، يقول متابعون.)
وفي إطار تخبط النظام في مواجهة أي ظاهرة اجتماعية من أجل المحافظة على مكاسبه وكرسيه، يُذْكَرُ في هذا السياق أنه مع بداية الأحداث صدر قرار من وزير التربية علي سعد بمنع المدرسات المنقبات من العمل في المدارس ونقلهن إلى جهات أخرى، وتأثرت وزارة التعليم العالي بهذا القرار وحاولت تطبيقه، وأخذت بعض موظفات كلية الآداب في جامعة دمشق مثلاً يطلبن من الطالبات المنقبات الخروج من قاعة الامتحان أو خلع النقاب، وحدثت مشاكل كثيرة في هذا السياق، ولم تمر فترة قصيرة إلا وقد تراجع (النظام العلماني الديكتاتوري!) عن قراره!
حاول النظام استثمار الحجاب في ظل الثورة السورية، وصدرت توجيهات إلى الفريق الإعلامي المختص بمواجهتها باستضافة أكبر قدر ممكن من النساء المحجبات في تلفزيون النظام، والتركيز على تصوير المحجبات في المسيرات المؤيدة، وبدأ فريق الفبركة بالعمل في هذا الاتجاه، وكانت الفضيحة مدوية يوم فُبركت مسيرات مؤيدة ألبست فيها الصبايا الحجاب ونطقن بلهجة أخرى لاتعرف إلى الحجاب طريقاً، غير أن نظاماً قتل مئات الآلاف من السوريين لن يخجل من مثل هذه الفبركة، يريد أن يقول للعالم: إن السوريين، مهما كان انتماؤهم، متمسكون بالقائد المفدى!
وتمت مناقشة قبول إظهار مذيعة محجبة في تلفزيون النظام على أعلى المستويات، غير أن الرأي استقرّ على تصدير هذه الفكرة إلى تلفزيون الدنيا، ونفذ التوجيه، مع أن قريبين من المذيعة يقولون إنها كانت تخلع الحجاب خارج فترة البث التلفزيوني وليس ارتداؤها له سوى جزء من المسرحية.
وتفيد معلومات موثقة أن أكثر من امرأة محجبة، كُشف أنها مدسوسة من النظام، كانت تحاول أن تقوم بتفجير، من ذلك ماذكره شهود عيان في معضمية الشام مثلاً...
وقد شارك في لعبة استثمار الحجاب الكثير ممن يسمين بـ (القبيسيات)، في إطار التأكيد على القائد الضرورة، ويبدو أن ماقام به الطاغية من قتل وتهجير وتدمير لم يحرك قلوب الكثير منهن، أو أن الغشاوة على عيونهن كانت سميكة جداً!
حارب النظام الحجاب وحرَّمه فترة طويلة لأسباب متعددة، ثم فجأة صار شيئاً محبباً وأزيلت عنه صفة الحساسية، ليس هذا بجديد على النظام، فحق الردّ الذي يمارسه ضد هجمات إسرائيل عليه لايزال يحتفظ به حتى هذه اللحظة! فالنظام لم يتورع عن استعمال أي سلاح كان يعتقد أنه يمكن أن ينصره أو يطيل بقاءه، أو يكون سبباً في إقناع الناس بأنه باق، وأن مناصريه لايقتصرون على شريحة واحدة، ووصل الأمر بالنظام في طريق الترحيب بالحجاب إلى درجة أنه وضع إحداهن وزيرة بحقيبة كاملة، يقول مقربون منها إن من جاء بها ليس كفاءتها، بل كونها محسوبة على شخصية تدير اقتصاد البلد واستثماراته!
وكانت الكثير من حواجز النظام، في مرحلة ما من عمر الثورة، لاتطلب البطاقة الشخصية من النساء غير المحجبات، في حين أنها تتشدّد في التفتيش مع النساء المحجبات، ولاتنسى المعتقلات كم كان الحجاب مدخلاً لإهانة الكثيرات ممن اعتدن ارتداءه، وكذلك لابد من استذكار مافعلته قوات الجيش والشبيحة مع نساء محجبات وعوائلهن دون احترام أي خصوصية تقرها كل شرائع الأرض والسماء.
طبعاً هاهنا لابدّ من تذكر أن بساطة أو سذاجة بعض المسلحين لايقل عن غباء النظام، فكثير من الحواجز المحسوبة على المعارضة التي تدعي التشدد كانت تسأل المرأة عن حجابها ونقابها، وتشترط وجوده حتى يتم تجاوز الحاجز، والكثير من السوريات اللاتي لايقر الحجاب دينهن أو عاداتهن اضطررن لوضع الحجاب في حقائبهن اليدوية تحسباً من حاجز مفاجئ، ويستذكر السوريون رغم أجواء الحرب الكثير من الطرائف التي حدثت معهم في إطار التوهّم في مطالب هذا الحاجز أو ذاك!
ولابد من استذكار صور المقاتلات الكرديات إبان التركيز الإعلامي على (عين العرب – كوباني) وفي المقابل التأكيد على ماكانت تفرضه داعش من نقاب وسواه من تفاصيل يدخل بعضها في تعاليم الدين ولايدخل معظمها في الثابت من تعاليمه!
كل هذه المواقف من الحجاب وطرائق توظيفه في ظل مايحدث في سورية يمكن أن تكون مدخلاً للإشارة إلى أن ممثلي (العلمانية) و(التدين) على الأرض، لايزالون يظنون أن من حقهم وحدهم فرض ما يعتقدونه على السوريين، وهذا الأخذ والرد، والتخبط في معالجة مثل هذا الموضوع والموقف منه يشير إلى أن السوريَّة هي الثورة، وماحدث في الدول الأخرى ليس أكثر من تغيير أنظمة حكم!
التعليقات (34)