بوتين يدرك تماما أنه يحظى بإعجاب كل دكتاتوريات العالم، وعلى ذلك يبني سياسات أحلامه القيصرية لا سياسة بلده، وروسيا تلك الدولة الغنية بمواردها وإنسانها لم تتوفق حتى اللحظة بزعيم يخرجها إلى مصاف الدول الفاعلة حضاريا، ومازال على كتفيها إرث ثقيل من عفن نظام شمولي حكمها تحت شعارات اشتراكية، لم ينل منها الروس وما انضوى تحت امبراطوريتهم من شعوب سوى المزيد من الفقر والعزلة، تتشدق شعاراتهم بمقولات إنجلز عن الديالكتيك ومقولات ماركس عن الرأسمال المتوحش الذي سيؤدي إلى ثورات عدالة حول العالم، كانت نتيجتها أن الثورات أتت على هذا الإرث الاشتراكي وبقي الرأسمال يجد حلوله بتطوير أدواته وقوانينه وتفاعله مع المجتمع، وجاءت ثورة المعلومات والاتصالات لتزيد من نجاحات هذا المعسكر وتظهر بالوقت ذاته مدى التخلف الذي تراكم في دول الاشتراكية العالمية التي طُبقت تحت راية العسكر حول العالم.
انتهت قيصرية الشيوعية منخورة بعارها التاريخي وابتدأت تبحث عن الغرب ليساهم بتدعيم نموها والأخذ بيدها نحو الأفضل، وظهر بوتين كقيصر على مستوى هذا الناتج المتراكم من الخيبات عينه على الغرب ورجله في وحل المخابرات التي تتلمذ فيها، ها هو أخيرا يتحف العالم من خلال تصريحاته أنه ساعد رئيس أوكرانيا يانوكوفيتش على الهرب، يعتقد الرجل أن في الأمر إثارة سوف تهز العالم، ثم يصرح في منتدى فالداي في روسيا إن سيادة ووحدة أراضي روسيا وسياستها غير قابلة للنقاش، هكذا في يوم واحد يريد أن يعطي لنفسه أمام محبيه صورة البطل ويدغدغ مشاعرهم بشعارات لا يطرحها لولا الإحساس بالضعف والوهن، فاستعار المرآة وخاطب نفسه ككل رفاقه حول العالم، إذ خاطب المعارضة كي لا تكون تابعة للخارج وتأخذ أفكارها منه، هكذا يهرب الرجل من أزماته الداخلية لاتهام الخارج ولعل هذا مؤشر على مدى الأزمة الداخليه لنظامه حيث يعتبر أن المشكلة الديموغرافية مازالت في جوار الخط الخطير الذي يحول دون فقدان روسيا قدراتها الوطنية، هذا الخلل السياسي الروسي وعقدة النقص يظهر جليا في تصريحات وزير خارجيته لافروف، فيقول عن لقائه على سبيل المثال بجون كيري إن الأخير هو الذي اقترح اللقاء ولافروف وجد وقته مناسب فوافق، ثم يقول إن روسيا دائما مستعدة للتعاون في مكافحة الإرهاب لكنه ينفي ما صرح به كيري أن روسيا تتعاون مع أميركا بتبادل المعلومات، بينما هي ستواصل تزويد النظام السوري بالسلاح، إن الإحساس بالعجز هو ما يجعل وزير خارجية دولة تدعي أنها كبرى لطرح هذه التناقضات.
إن بوتين الذي فقدت بلاده 20 مليون شخص بالحرب العالمية الثانية، يحاول الظهور على أنه قائد عصري، لم يلحظ أن ألمانيا قد تخطت جراحها وانتقلت وأصبحت أقوى اقتصاديات أوربا، وهكذا بعدم رؤيته للواقع يقفز بلا توازن نحو سياسات لا تؤشر عن نضج في كيفية إدارة ملفات حساسة، فقد تعامل مع نهاية حكم صدام حسين بعقلية رجل المخابرات، ومع ثورة ليبيا بعقلية تاجر خردة، ليصف الربيع العربي بأحد تصريحاته أنه ليس ربيعا بل شتاء متجاهلا كميات الأسلحة التي صدرتها بلاده لأنظمة تلك الدول وبالذات سوريا لمحاولة دفن ربيعها، تناسى أن يديه ملوثتان بدم الأطفال والنساء والشيوخ، وهنا نفهم من كل سياسات وتصريحات بوتين أنها تخفي قلقا عميقا من وصول هذا الربيع العربي الذي مازال ينبض في سوريا بألق إلى بيته الروسي، ولعل أزمته بالتعامل مع ثورة أوكرانيا وهذا العجز والانكسار الذي جناه هو دليل أكثر وضوحا على المستوى المتدني الذي وصلت إليه روسيا كدولة لها حضورها العالمي، فقد تعاملت مع تلك الثورة بعقلية شبيحة الأسد ثم فهمت أن الغرب يستطيع قطع يدها إن أراد، وهو حتى الآن لم يرغب قطع يد بشار الأسد وعندما يرغب سيقطع ليس يده بل يد بوتين نفسه من الشرق الأوسط.
لم يتعلم سياسيو روسيا حتى الآن كيف يمكن مد اليد للشعوب وإن بالتحايل كما يفعل الغرب الذي يغض النظر عن إبادة السوريين المنظمة من جهة ويتحايل بوصفه صديقا للشعوب المظلومة، فروسيا الشيوعية ذات يوم وقعت معاهدة صداقة مع نظام حافظ الأسد بينما كان الأسد يعتقل شيوعيي سوريا، لم تطالبه حتى بضمان سلامة منتسبي هذا الحزب، وها هي اليوم تنفخ في قربة فارغة وتعطي مبررات القتل للأسد الإبن وتغطيه بفيتو "مكسر عصا" لها قبل أن يكون لغيرها، وبينما تدعي أنها تنطلق بمواقفها من حرصها على القانون الدولي تتعانق مع إيران صباح مساء، وإيران هي مركز تصدير الإرهاب بالشرق الأوسط ومسؤولة عن كل الجرائم الطائفية وبالوقت ذاته يعرب لافروف في حديث قديم عن ثورة سوريا أنه قلق من الحكم السني في حال سقط الأسد.
هذا القيصر الروسي الواهم بمرآته المقعرة هو ما اقتدى به الأسد عندما دخل بعد انتخاباته الهزلية ليلقي خطابه، ثم يصفه أحد وزرائه أخيرا بالقيصر، هكذا يكون قيصر روسيا هو زعيم على طريقة تلك الدمى الروسية الخشبية المتسلسلة الأحجام داخل بعضها، لكن القاسم المشترك بينها أنها حتى في السياسة لم تعد تصلح كدمى، فروسيا التي صدرت لنا خلال عقود خبراء قتل وتدمير لا خبراء تنمية ومعرفة، لم تدرك أن لدى السوريين خبراء في الأخلاق لمن فاته أن في سوريا ثورة اسمها ثورة كرامة وهي ذاتها يستحقها الشعب الروسي على أمل أن لا يعامله قيصره بالكيمياوي أو "النووي" كما قيصر حي المهاجرين.
التعليقات (0)