أما جمال معروف فبعد ساعاتٍ من هذا الاستعراض التلفزيوني هرب سراً إلى خارج البلاد وهرب معه العدد الأكبر من قادته ومقاتليه في نهايةٍ حزينةٍ ومؤلمة لواحدٍ من أقوى فصائل الجيش السوري الحر في شمال سوريا, وأكثرها دعماً إقليمياً ودولياً.
لم تكن الشجاعة تنقص جمال معروف, فهو الذي بدأ الحرب على داعش قبل عشرة شهور وطردها من وسط وشمال سوريا. كما أنه لا ينقصه الحزم, فهو الوحيد الذي وقف في وجه أحرار الشام عندما تمردوا على الجيش الحر في السنة الماضية, وأجبرهم على التراجع وطلب الصلح معه.
كما أن جمال معروف رجلٌ له تاريخ كبير في الثورة رغم كلّ ما يقال عنه, فهو الذي خسر ابنته, وزوجته, وأخاه وعدداً كبيراً من أقاربه وأحبابه في قتال النظام. يتهمه أعداؤه بأنه لصّ وسارق وعميل, لكن من يحمل هذه الصفات يكون جباناً, ولا يكون على رأس مقاتليه في كل معركة وفي الصفوف الأولى. كما أن جمال كان دائماً يدفع بابنه البكر خالد ليكون في مقدمة المقاتلين أيضاً, وخصوصاً في المعارك الحاسمة.
فأين أخطأ جمال معروف؟ وما هي حقيقة مأساته؟ لماذا اندحر مهزوماً بطريقةٍ مهينةٍ ليس له وحده فقط, بل للجيش الحر وللثورة بأكملها؟
لن أناقش في الإجابة على هذا السؤال الأسباب الموضوعية والتدخلات الدولية, التي باتت بالفترة الأخيرة تنعكس على أصغر التفاصيل التي تحصل على الأرض في المناطق المحررة, وخصوصاً أمام الخروقات الاستخباراتية الكبيرة للثورة بسبب كثرة الملثّمين من الجهاديين أتباع القاعدة, وغيرها من التنظيمات التي لا تمتّ لسوريا ولا للثورة بصلة. ولكن سأحاول الإجابة على هذا السؤال من خلال ما سمعته شخصياً من أصدقاء ومحبّي وحسّاد وخصوم جمال معروف ممن هم أفضل اطلاعاً من غيرهم على سيرة الرجل والأخطاء التي وقع فيها والتي أدت به لأن يكون وحيداً مع بضعة مقاتلين بين الصخور على أطراف ضيعته يصيح كالأسد الجريح: "أنا جمال معروف يا جولاني!"
مع أن جمال معروف كان – كما أسلفت - بطلاً من الأبطال على الأرض, ولم يكن كبقية القادة يقود مجموعته بالتحكم عن بعد من الأراضي التركية, إلا أنه كان ممن استعجل ثمار عمله وبطولاته, ودبّت فيه أحلام العظمة والسيادة. ورغم وجود ضباط وأشخاص ذوي كفاءة في جبهة ثوار سوريا, إلا أن هذه المجموعة المهمة في قوام الجيش السوري الحر بقيت متمحورةً حول شخصية جمال معروف, بحيث لو ذكرت اسم المجموعة قفز اسم جمال إلى مخيلتك فوراً. وهكذا كثر حسّاد جمال معروف والمتربّصين به, حتى من الدائرة الضيقة لأصدقائه وأبناء منطقته. فجمال معروف كان مشهوراً بالطموح الجامح, ويقال أنه أبعد رفاق دربه الأوائل عنه, وتنكّر لهم واستفرد بالأمر ولم يُبقِ حوله من الرجال إلا من هو بين مطبّلٍ ومزمّر.
من هذا الباب فمأساة جمال معروف الأولى هي "الأنا". تلك "الأنا" التي كشفها هو بنفسه يوم صاح "أنا جمال معروف يا جولاني!"
كان على القائد الوطني الثوري الذي تشهد له ساحات الوغى أن يعلم أن مشكلة الشعب السوري الكبرى مع سفاح دمشق هي "الأنا" التي تدفع شخص معتوه مجرم كبشار الأسد لتدمير البلد بأكمله من أجل البقاء في السلطة.
وفي تلك المعركة الأخيرة الخاسرة لجبهة ثوار سوريا مع النصرة, أين كان المكتب السياسي للجبهة؟ أين كان المكتب الإعلامي؟ أين هم ضباط الجبهة ذوي الرتب العالية؟ أين هي البيانات الواضحة والخطاب العقلاني الذي صدر عن الجبهة لمواجهة الحملة الذكية الشرسة التي شنتها جبهة النصرة وغيرها من الفصائل لتشويه صورة جمال معروف وتدمير القاعدة الشعبية لجبهة ثوار سوريا؟
في الواقع, كان ظهور جمال معروف بتلك الطريقة الاستعراضية هو أكبر مؤشر على النّخر الحاصل في مجموعته, وعلى غياب الهرمية والتراتبية, والعمل المؤسساتي, والتنظيم, وعدم توظيف الكفاءات. كان ظهوره مؤشراً على جسمٍ مقاتل كبير متمحورٍ حول قائد خالد تم تدمير صورته العامة ليسهل تفريق الجموع من حوله, ومن ثمّ الإجهاز عليه وللأبد.
إن مأساة جمال معروف هي مأساة الجيش الحر الذي ليس له من كلمة "جيش" إلا الاسم, وما زال يعتمد على العنتريات العفوية الفارغة. إن مأساة جمال معروف هي مأساة الثورة التي لم تنجح حتى الآن ببناء البديل الأخلاقي والبديل العملي الديمقراطي المؤسساتي لنظام الأسد الديكتاتوري.
إن مأساة جمال معروف هي مأساة سوريا ... إنها مأساة "الأنا" التي تريدنا جميعاً سقط متاعٍ عندها.
التعليقات (44)