ديمقراطية البقاء

ديمقراطية البقاء
بعد مرور ثلاثة أعوام على بداية الثورة أصبح واضحاً موقف التنظيمات والقوى السياسية السورية تجاه الوضع القائم في بلد المآسي والكوارث الأسدية، فقد انعقدت مؤتمرات واجتماعات ولقاءات ضمت أطرافاً عديدة، وجرت حوارات ونقاشات كثيرة داخل الوطن وخارجه.

ورافق ذلك صخب إعلامي وضجيج كلامي وتبادل ممل للاتهامات راحت تتكرر نوطاته ووجوه أبطاله في كل مناسبة مع تغيير بسيط في الوظائف والمناصب والولاءات.. استطاعت بعض التنظيمات الليبرالية والحركات الدينية وتنسيقيات الثورة المحلية – لاسيَّما في الخارج – تشكيل ما يشبه التجمعات أو الكيانات المعارضة غير المتجانسة، هدفها إسقاط النظام بأي شكل من الأشكال؛ حتى ولو كان هذا عن طريق مساعدة دولية أو تدخل عسكري أجنبي. أما بعض الأحزاب اليسارية والاشتراكية والقومية – لاسيَّما في الداخل – فقد طالبت بإصلاح النظام فقط، معتبرة إسقاطه بقوة السلاح أمراً صعب المنال, وأن الاستعانة بالأجنبي ستجر البلاد إلى حرب طائفية طاحنة، مستحضرة التجربة العراقية كمثال، متناسية أن حليفها السلطوي المتشبث بالكرسي حتى آخر رمق من خلال الشعار الذي كتبه جنوده أثناء اقتحامهم للمدن والقرى «الأسد أو نحرق البلد»؛ كان أول من زج بالطائفية ودفع بمليشياتها ومرتزقتها للقتال إلى جانبه؛ ولولاهم لما صمد حتى الآن ولكان سقوطه وشيكاً..

هذه القوى آمنت بإمكان إصلاح النظام من الداخل، وبأن الأمور تحتاج لبعض الوقت والصبر؛ لكن الشارع السوري الثائر المندفع لم يقبل بوجهة نظرها الغريبة هذه، واعتبرها متآمرة متخاذلة، وأصر على السير حتى النهاية في معركته العنيفة ضد قوات الأسد المجرمة ومن يدعمها من قوى إقليمية ودولية.

في حين حاول بعضهم أن يشكل طريقاً ثالثاً – مثل الأحزاب والتنظيمات المنضوية ضمن ما يعرف بهيئة التنسيق الوطنية – لكنه فشل أيضاً بسبب حساسية الشارع المفرطة تجاه كل ما يتعلق بالنظام وشعاراته ومصطلحاته ورموزه.. هذه الهيئة – للأسف – لم ترغب بإسقاط النظام، واعتبرت الجيش الحر تنظيماً إرهابياً؛ وراحت – بتوصية من النظام نفسه – تمثل المعارضة السورية في المحافل الدولية الداعمة للأسد!

ربما لم يضر أحد بالثورة السورية مثلما أضرت بها المعارضة الداخلية المتمثلة بهيئة التنسيق الوطنية وتيار بناء الدولة وتحاالف قدري جميل – علي حيدر وبعض الأحزاب الكردية؟

هناك بعض الأحزاب الأخرى – أحزاب الجبهة الوطنية التقدمية والداخلة في مجلس الشعب, والأحزاب التي تأسست مؤخراً عن طريق أجهزة أمن الدولة – التي لم تعترف حتى الآن بأن ما جرى ويجري في سورية هو ثورة؛ حيث حاولت دائماً التشكيك بمصداقية حراكها ونعت مقاتليها الأحرار بشتى الأوصاف، وربطهم بأجندات خارجية هدفها إثارة الفتنة والقلاقل في البلاد، متهمة دول عربية وأجنبية معينة بالتآمر على سورية الممناعة.

وهذا طبيعي لأنها ساعدت حزب البعث الحاكم في السيطرة على مقاليد الحياة السياسية بأكملها طوال نصف قرن تقريباً من الزمن؛ وجاء دورها لتتنحى وتغادر المنصة غير مأسوف عليها، تاركة المكان لقوى سياسية جديدة تبلورت ملامحها المستقبلية وبرامجها وإيديولوجياتها وأنظمتها الداخلية منذ فترة وجيزة، وها هي الآن تظهر تباعاً. لكن أغلبها، أو قل كلها، تأسس خارج سورية؛ ولا أحد يعرف حتى الآن ماهيتها؟ ومن يمولها ويقف خلفها؟ وما هي أفكارها وخططها وشعاراتها وأنظمتها الداخلية؟.. لكنها ما زالت ضعيفة مبعثرة القوى تعمل خارج البلاد دون أن تكون معروفة جيداً من قبل أغلب الجهات المقاتلة على الأرض؛ رغم أنها ترسل مبعوثيها إلى هنا وهناك، محاولة استقطاب بعض هذه الجهات.

إن حركة الشارع المتسارعة قد جرفت في طريقها كل شيء يخص تلك الأحزاب والحركات السياسية التي فوجئت بقوة الثورة وامتدادها إلى كل بقاع الوطن؛ ولم تستطع استيعاب واقع الرمال السورية المتحركة.. هذه الثورة التصاعدية لم تعد تطالب بالإصلاحات والتغييرات الجزئية فحسب، بل أصرت على التغيير الثوري الجذري؛ وذلك بإسقاط النظام كلياً ومحاكمة رموزه وقادته وكل من ارتكب جريمة بحق الناس العزل، مهما كلف الثمن وارتفع حجم التضحيات.. إنها ثورة بدأت سلمية ومن ثم تسلحت؛ وهي تسير خطوة إلى الأمام وخطوتين إلى الوراء؛ وربما أكثر!

إذا أرادت تلك الأحزاب أن تذيب الثلوج المتراكمة فوق عقول أصحابها، وتتخلص من عنجهيتها وثقتها الزائدة بنفسها وبصحة تحليلاتها وتفسيراتها كي تنبعث من جديد، فلابد لها من امتلاك الجرأة الكافية للاعتراف بأخطائها وجمودها وتخلفها عن روح العصر الثوري، مدركة أن زمن الحزب الواحد والأحزاب الكرتونية الدائرة في فلكه والداعمة له في كل شيء – حتى في النشرة الجوية – قد انتهى إلى الأبد!

هذا لا يخص أحزاباً بعينها، وإنما يخص جميع القوى السياسية الأخرى، بما فيها الحركات الإسلامية التقليدية والتنظيمات المتطرفة الصاعدة التي تثير جدلاً واسعاً حول غموض برامجها وأهدافها وشفافيتها وصدق نواياها.

هذه الحركات مثل غيرها من الأحزاب تعرضت لانشقاقات وانقسامات عديدة، وضعفت كثيراً داخل سورية وخارجها؛ ومع ذلك تحاول النهوض ثانية والسيطرة على المناطق المحررة؛ رغم معرفة الجميع أنه لم يكن لها أي دور يذكر في انطلاق الثورة, ولا في مظاهراتها السلمية، ولا حتى في مسيرتها التحريرية الأولى...

الثورة السورية ليست ثورة إسلامية كما يحاول بعضهم صبغها بهذا اللون الأحادي، لاسيَّما النظام والجهات الإسلامية الراديكالية وبعض الدول كروسيا والصين وإيران، بل ثورة وطنية شعبية شاركت فيها جميع فئات وأطياف المجتمع السوري, لكن بنسب متفاوتة. وهذا أمر طبيعي لأن مجتمعنا ليس مجتمعاً عشائرياً تُسيّره العصبيات القبلية العمياء، أو النزعات القومية الشوفينية، أو المذهبيات الطائفية السوداء!

الدعوات إلى الجهاد أعطت الثورة بعداً دينياً؛ وهذا طبيعي لأن أغلبية السوريين هم من المسلمين السنة؛ لكنهم ليسوا إسلاميين بالمفهوم السياسي.. لقد استجار الثوار السوريون بالله وحده بعد أن فقدوا الأمل بأية مساعدة أو دعم عربي أو دولي، ولم يبق لهم عون سواه وبعض الثوار والمجاهدين الشرفاء.. هذا واضح من خلال الشعارات والهتافات التي نادى بها المتظاهرون والمقاتلون معاً: «الله أكبر حرية»؛ «الله أكبر على الظالم»؛ «ما لنا غيرك يا الله», «قائدنا إلى الأبد سيدنا محمد»... هذا يحمل دلالات رمزية ترفعنا نحو فضاء علوي جميل يحمل في طياته جنسية موته السورية فقط!

يتوجب على جميع الأحزاب والتنظيمات السياسية والعسكرية في سورية أن تعيد دراسة تجربتها وتضع تقييماً موضوعياً ناقداً لمسيرتها، حتى تستطيع فهم وإدراك الحالة الراهنة التي نشأت نتيجة اندلاع الثورات العربية، والتأقلم مع الوضع الجديد.

فمن أراد أن يبقى على الساحة السورية من قوى – قديمة وناشئة حديثاً – عليه أن يؤمن إيماناً كاملاً – نظرياً وعملياً – بمبادئ الحرية والكرامة والعدالة والمساواة وحقوق الإنسان والمواطنة والدولة المدنية..، وأن يبتعد عن العنف والتطرف ويكون حضارياً في سلوكه وممارساته؛ وأن يطبق مبدأ الشورى الحقيقي أو الديمقراطية في بيته التنظيمي الداخلي أولاً، ومن ثم عليه أن يفتح لها طريقاً نحو الحياة السياسية العامة للدولة والمجتمع.. كذلك يجب أن يكون منظماً تنظيماً جيداً، ويملك المال.. المال النظيف طبعاً!

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات