تحقيق: كيف فشلت حكومات الأسد بحل مشكلة تسويق الحمضيات؟

تحقيق: كيف فشلت حكومات الأسد بحل مشكلة تسويق الحمضيات؟
تنتشر في مدينة مرسين التركية أكشاك أنيقة على شكل برتقالة تسمى ((موقف الفيتامينات)) وهي مخصصة لبيع عصير البرتقال وغيرها من الحمضيات الطازج للمواطنين، ومرسين هي مدينة ساحلية تركية تمتلك نفس مقومات الزراعة للمدن الساحلية السورية (اللاذقية وطرطوس) وتشتهر ببساتين الحمضيات بكل أنواعها.

تلك الأكشاك ذكرتني بموضوع تسويق الحمضيات في سوريا الموضوع الذي يتفجر كل عام دون إيجاد حلول عملية ، ولكن قبل الخوض بموضوع تسويق الحمضيات لابد من تسجيل ما يلي:

الحمضيات السورية محصول مثله مثل باقي المحاصيل السورية الأخرى والتي تعاني أيضاً إختناقات تسويقية كل عام، فهناك مشكلة تسويق البندورة الحورانية في موسمها وهناك مشكلة تسويق الفستق الحلبي، وزيت الزيتون، و تفاح السويداء والزبداني، ولكن المواطن السوري العادي لم يتعود أن يسمع كل عام سوى عن مشكلة تسويق الحمضيات والسبب أن مزارعي هذا المحصول ينتمون لمنطقة جغرافية من سوريا تشتهر بتصدير أبنائها للأجهزة الأمنية والعسكرية وكبار موظفي الدولة وذلك بحكم الإنتماء الطائفي، ولذلك فإن القائمون على الزراعة يحاولون كسب ود هؤلاء الأجهزة عن طريق محاولة حل مشكلة تسويق محاصيل آبائهم.

بداية لنعطي القارئ فكرة عن محصول الحمضيات في سوريا:

تنتشر زراعة الحمضيات في الشريط الساحلي من سوريا أي بمحافظتي اللاذقية وطرطوس حيث تحتوي هاتين المحافظتين (حسب إحصائيات وزارة الزراعة والإصلاح الزراعي لعام 2012) على /12499.5/ ألف شجرة حمضيات مثمرة أي بنسبة تبلغ /96.27 %/ من إجمالي عدد أشجار الحمضيات المثمرة في سوريا. كما تبلغ المساحة المزروعة بأشجار الحمضيات في هاتين المحافظتين/41741/ هكتار. ويبلغ إنتاج القطر من محصول الحمضيات حسب نفس الإحصائيات /927453/ طن منه /542207/ طن برتقال.

وسيذهل القارئ إذا علم المساحة المزروعة بأشجار الحمضيات في كامل سوريا في عام 1982 بلغ /2985/ هكتار أي أن نسبة الزيادة خلال عشرون عاماً بلغت تقريبا 1400% وسيتساءل كيف أتت تلك الزيادة الكبيرة جداً بزراعة هذا المحصول في سوريا؟

وللإجابة على هذا التساؤل المشروع نعود بالذاكرة للوراء لنستذكر عمليات التشجيع المحمومة التي قامت بها وزارة الزراعة والإصلاح الزراعي لأهالي المناطق الساحلية لإنشاء بساتين الحمضيات وذلك عندما سخرت لهم آليات الدولة التابعة لمشروع تطوير المنطقة الساحلية الممول من الصندوق الدولي للتنمية الزراعية (إيفاد) (طبعاً إذا أهملنا عمل آليات الجيش المسخّرة لبعض أبناء هاتين المحافظتين)، وتوزيع الغراس بسعر رمزي جداً (شبه مجاني) والأخطر من كل ذلك أن الزيادة الهائلة في المساحة المزروعة بأشجار الحمضيات قد أتت على حساب الحراج والغابات الطبيعية التي تنتشر في جبال تلك المحافظتين. ولطبيعة الأراضي في تلك المنطقة (شريط ساحلي ضيق وجبال وعرة) من ناحية ومن ناحية أخرى لموضوع الإرث وتفتت الأراضي ولإهتمام الدولة بالكم وليس بالنوع (كما إقتصاديات كافة الدول الإشتراكية في وقتها) انتشرت بساتين الحمضيات في الساحل السوري بشكل عشوائي وكانت تلك البساتين تتصف بأنها صغيرة المساحة،(أي أن حيازة المزارع الواحد لا تتعدى 1-3 دونم) والأسوء أنها تحتوي على خليط من أصناف الحمضيات فتجد في البستان الواحد أشجار برتقال أبو سرة وبرتقال بالانسيا وأشجار ليمون وأشجار يوسفي وأشجار كريفون، أي أنك تشاهد في بستان صغير كافة أنواع الحمضيات، ولم تُعر وزارة الزراعة والإصلاح الزراعي أي إهتمام بهذا الخلط لأنها كما أشرت تهتم بالكمية وليس بالنوع، وأدى هذا الخلط لتدهور الأصناف المزروعة نتيجة التلقيح الخلطي بين أشجار الحمضيات كما أدى هذا التنوع بالأصناف لصعوبة مكننة القطاف وبالتالي تخفيف نفقة القطاف.

ونتيجة لهذا التخطيط الفاشل من قبل وزارة الزراعة والإصلاح الزراعي المتمثلة بالتوسع بزراعة محصول الحمضيات دون التفكير بسبل تسويقه أصبح مزارعو الحمضيات يقعون في كل عام في أزمة تسويقية خانقة دفعت البعض منهم لترك محاصيلهم على الأشجار نتيجة إرتفاع أسعار القطاف وتدني أسعار المحصول نتيجة كبر الكمية المعروضة من الحمضيات، حيث أنه وبحسب الميزان السلعي لمحصول الحمضيات في عام 2011 تبلغ الكمية المتاحة للأسواق المحلية /964/ ألف طن بينما يقدر استهلاك الفرد السوري من الحمضيات بحوالي /5كغ/ سنوياُ أي أن إجمالي الاستهلاك المحلي لا تتجاوز حوالي /110/ ألف طن، وبذلك فإن كمية حوالي /854/ ألف طن معرضة للتلف كل عام.

والآن حصل الذي حصل وبدأ إنتاج سوريا من الحمضيات يناهز المليون طن فما هي السبل لتسويق هذه الكمية؟

ينحصر تسويق أي محصول أو سلعة بثلاث قنوات قناة التسويق المحلي الطازج وقناة التسويق الخارجي الطازج (التصدير) وقناة تصنيع العصائر والمكثفات.

بالنسبة للتسويق المحلي يجب الاعتماد على زيادة الثقافة الإستهلاكية للمواطنين في استهلاك الحمضيات بشكل طازج وهنا يأتي دور الإعلام وما الأكشاك التي تحدثت عنها في بداية هذه المقال سوى وسيلة من وسائل التسويق المحلي، ومن طرق زيادة ثقافة استهلاك الحمضيات الطازجة هي تطبيق الأسلوب المطبق في بعض الدول المنتجة للحمضيات مثل تركيا وإسبانيا وإيطاليا، والذي يمنع خلال موسم الحمضيات على المطاعم والفنادق تقديم عصير الحمضيات المعبأ، والاعتماد على الحمضيات الطازجة فقط. أيضاُ هناك المهرجانات المتخصصة التي نراها في كافة المدن التي تشتهر بزراعة الحمضيات، مثل مدينة مرسين التي شاهدنا نحن وأطفالنا فيها عروض من أجمل العروض لشخصيات كرتونية مشهورة مصنوعة من الحمضيات تجوب الشوارع الرئيسية لعدة أيام بمنظر جميل لن ينسوه.

أما بالنسبة لتصدير الحمضيات فقد فشلت كافة المحاولات الحكومية لتصدير الحمضيات رغم عقد الاجتماعات والاتفاقيات والكريدورات التجارية التي يتغنى بها مسؤولي الحكومات الزراعية في كل عام، حيث بلغت صادرات سوريا من مادة البرتقال الطازج في عام 2010 /151/ألف طن فقط ( حسب خلاصة التجارة الخارجية)، وقد توزعت تلك الصادرات على عشرة دول، ولمعرفة مدى الفشل الحقيقي للحمضيات السورية من اختراق الأسواق العالمية لا بد من مقارنة واردات تلك الدول العشر من البرتقال السوري من إجمالي وارداتها من البرتقال لعام 2010:

الدولــة واردات البرتقال من سويا(طن)* واردات البرتقال الإجمالية (طن)** النسبة

العراق 129321 146329 88.38

الأردن 12929 26482 48.82

روسياالاتحادية 2777 498799 0.56

الكويت 2276 59112 3.85

السعودية 1559 332473 0.47

الامارات 798 169481 0.47

قطر 582 23419 2.49

عُمان 282 41862 0.67

إيران 165 136407 0.12

مولدافيا 108 لا يوجد بيانات

المجموع 150797 1434364

* حسب خلاصة التجارة الخارجية لعام 2011

** حسب قاعدة بيانات التجارة الزراعية لمنظمة الزراعة والأغذية (FAO)

أي أن البلدان المستوردة للبرتقال السوري (بإستثناء العراق والأردن) تستورد برتقالنا إستحياء أو صدقة، فعندما تكون صادراتنا من البرتقال إلى إيران لا تتجاوز /0.12%/ وروسيا /0.56%/ من وارداتهم الاجمالية من البرتقال لا يحق لرئيس إتحاد الغرف الزراعية أن يتشدق قائلاً أن أصدقائنا الإيرانيين والروس يستوردون برتقالنا لدعم إقتصادنا.

أما عن الأسباب الكامنة من وراء عدم تمكن مصدرينا من تصدير حمضياتنا فهي كثيرة ولكن أهمها عدم ملائمة أصناف حمضياتنا لأذواق المستهلكين في الدول الأخرى، نتيجة التخطيط السيئ أثناء الزراعة الذي تكلمنا عنه، وأيضاً لعدم الإهتمام بموضوع الفرز والتوضيب والتشميع الذي يحسن من مواصفات الحمضيات المعدة للتصدير.

أما موضوع القناة الثالثة للتسويق وهي تصنيع الفائض لعصائر ومكثفات فهذه تعترضها تفتت و تشتت حقول الحمضيات مما يؤدي لزيادة التكلفة على أصحاب تلك المنشآت، مما يجعلهم غير قادرين على منافسة المنتجات المشابهة التي تدخل لسوريا، بموجب إتفاقية منطقة التجارة الحرة العربية الكبرى.

وأخيراً يتأكد لنا مراراُ وتكراراُ وعبر الخوض بالتفاصيل الدقيقة عن مدى فشل تخطيط الحكومات المتعاقبة في ظل حكم الأسد، ولابد بعد سقوطه على أصحاب القرار المنتخبين أن يبدؤوا إعادة ما خربته تلك الحكومات، والعمل على إنشاء مناطق متخصصة بإنتاج نوع معين من الحمضيات بعد دراسات تسويقية دقيقة للمواصفات التي يرغب بها المستهلكون المستهدفون.

*مهندس زراعي سوري

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات