هذه المواقف المتباينة كانت فقط بين من يرفضون تدخل الحر بين "داعش والإنفصاليين" من جهة، وبين آخرين يرون أن هذه الخطوة نابعة من موقف "وطني" لأن عين العرب مدينة سورية وواجب على الجيش الحر الدفاع عنها من جهة أخرى.
قلة قليلة فقط تنبهت إلى أن وراء موقف العكيدي المفاجئ الكثير من الخفايا، فهو الذي كان يعتبر (تنظيم الدولة) أخوته، ولم يترك مناسبة إلا ودافع فيها عنهم، بل وكان يرى أيضا أن الأكراد طعنوه من الخلف ويجب إبادتهم، فكيف انقلب عبد الجبار العكيدي من النقيض إلى النقيض دون إنذار مسبق؟
مواقف العكيدي من تنظيم الدولة والأكراد
كان موقف عبد الجبار العكيدي من الاكراد يدخل في إطار الدبلوماسية, لكن موقفه من تنظيم الدولة كان واضحا منذ البداية. بالنسبة للأكراد, فقد زار مدينة عفرين في محافظة حلب والتي يسكنها أغلبية كردية وأستقبله قائد قوات الحماية الشعبية في المدينة، وأكد العكيدي على وحدة الاراضي السورية بعربها وكردها وجميع القوميات الأخرى.
حتى الآن المشهد واضح, إلى أن انتشر مقطع فيديو على مواقع التواصل الإجتماعية للعقيد العكيدي يقول فيه أنه لا اتفاق بعد اليوم مع الأكراد مشيرا إلى PKK على حد قوله قاصدا حزب الاتحاد الديمقراطي PYD. وأكد العكيدي في أحد الاجتماعات العسكرية : " إننا كل مرة كنا نتفق معهم و يطعنوننا بالخاصرة، لم يعد هناك رحمة معهم و لو اضطر الأمر لإبادتهم عن بكرة أبيهم ".
هذا التصريح فجر موجة غضب عارمة في الأوساط الكردية, وأعتبره الأكراد تهديدا واضحا لأمنهم وإستقرارهم, ونسف كل الجهود السابقة التي بذلت لتقريب الرؤى بين العرب والأكراد.
لكن موقفه من الدولة الإسلامة كان اكثر وضوحا, فقد قال عبد الجبار العكيدي في تصريح له ضمن برنامج ضيف المشرق, الذي بث على قناة أورينت نيوز بتاريخ 14 / 11 / 2013 " أنا علاقتي مع الأخوة في دولة الإسلام في العراق والشام جيدة, وهي علاقة أخوة, وتواصلي شبه يومي معهم لحل كل المشاكل."
وأشار العكيدي إلى أن الإعلام يهول الأحداث ويسلط الضوء بشكل مبالغ فيه على "دولة الإسلام", وأضاف العقيد أن "قسم كبير من عناصر الدولة الإسلامية ليسوا كما يصورهم الإعلام. يوجد بعض من العناصر لديهم أخطاء فردية وفكر خاطئ, لكننا عندما نجلس مع قياداتهم حقيقة لانجد لديهم هذا الفكر".
جاءت هذه التصريحات بعدما أعلن العقيد عبد الجبار عن إستقالته من قيادة المجلس العسكري الثوري في حلب, وعزا أسباب إستقالته إلى تخلي المجتمع الدولي عن القضية السورية, وتشتت المعارضة السياسية والعسكرية, والصراع على الأرض بين "أمراء الحرب " على حد وصفه. واتهم المعارضة ضمن بيان إستقالته بمعارضة الفنادق الذين لا يمثلون إلا أنفسهم , وبالتهاون بدماء الشهداء, والسعي وراء المناصب.
وبذلك إنسحب العكيدي من الساحة تدريجيا بمشهد درامي, كبطل احد الأفلام الذي يتخلى عن كل شيء في سبيل مبادئه, حتى إختفى تماما ولم نعد نرى له أي تصريح أو مقابلة تلفزيونة.
الوجه الآخر للقمر !
ضمن مشروع "باقية وتتمدد" إستطاع تنظيم الدولة نقل المعركة إلى عين العرب ونقل معها أنظار العالم, بعدما دخل التحالف الدولي على الخط, وركز ضرباته الجوية ضد مواقع التنظيم التي تحاول الوصول إلى الشريط الحدودي مع تركيا, وهنا عاد نجم العكيدي بالسطوع إعلاميا ولكن بوجه جديد.
لم تستطع ضربات التحالف إيقاف أو إبطاء تقدم التنظيم نحو عين العرب, فهي غير فعالة دون قوة برية منظمة ومدربة, وتركيا لم تسمح للمقاتلين الاكراد بالدخول إلى المدينة للدفاع عنها, فكان لابد من الإستعانة بقوات المعارضة السورية "المعتدلة". وهنا تفجرت المفاجأة.
ظهر الفارس البطل الذي تخلى عن قيادة المجلس العسكري بسبب مبادئه. ظهر على رأس قوة قوامها أكثر من ألف جندي من الجيش الحر لمقاتلة تنظيم الدولة والدفاع عن مدينة عين العرب!
توالت تصريحات العكيدي وعاد إلى واجهة الإعلام العربي بشكل سريع جدا, وخرج خلال ساعات على العديد من القنواة من مدينة غازي عنتاب التركية وبدأ بالتهجم على تنظيم الدولة وأتهمه بأنه صنيعة النظام السوري.
وطلب العكيدي من قواة التحالف وعلى رأسها الولاية المتحدة الأمريكية دعمه ليقود العمليات على الأرض ضد تنظيم الدولة.
العكيدي رجل سياسي أم عسكري؟
يبدو أن العكيدي يحاول أن يبرر عدم ثبات مبادئه "الراسخة" من منطلق سياسي, وهو يعتبر نفسه رجلاً سياسياً من خلال لقاءاته التلفزيونية وتحليلاته, حتى أنه أقنع الكثيرين من أنصاره بذلك والذين نشروا حملة على مواقع التواصل الإجتماعية بمسمى "معاً لترشيح العقيد عبد الجبار العكيدي رئيساً لسوريا بعد الأسد".
إن السياسة بطبيعتها متقلبة تحكمها الظروف الدولية الضاغطة أحياناً, والتغيرات المحلية والإقليمية أحياناً أخرى. وفي مواجهة المتغيرات عادة ما تكون المبادئ ثوابت لا يمكن الحياد عنها. فماذا عن ثبات مبادئ العكيدي؟!
حتى وإن إعتبرنا جدلاً أن العكيدي رجل سياسة أكثر مايكون رجلاً عسكرياً, فإن هذا الأمر يحسب ضده, لأن التغيرات السياسية تحكمها حقيقةً المصالح المتقلبة وشريعة الغاب في أحيان كثيرة, وإن السياسات المتغيرة "للرموز الثورية" تؤدي إلى فقدان الثقة بين هذه الرموز وبين المجتمع المحيط بها, وهذا ما نلمسه الآن من موقف المجتمع السوري من العقيد العكيدي والذي وصل إلى حد الشتم والذم ووصفه بأبشع الأوصاف.
السبب الحقيقي
كل ماحدث أمام عيني العكيدي من الجرائم التي نسبت إلى تنظيم الدولة الإسلامية من ذبح وتشريد للشعب السوري كان "أخطاء فردية", أما أن يصل البل إلى ذقنه فحينها يبدو أنه قد قرر الدوس على مبادئه ومقاتلة التنظيم!
العقيد عبد الجبار العكيدي ابن بلدة الشحيل في ريف دير الزور من عشيرة الشعيطات. ومن هنا قد يظهر السبب الحقيقي وراء موقفه المفاجئ, فسبب قراره هذا يعود إلى ثأر شخصي بينه وبين تنظيم الدولة الذي إحتل مناطق تواجد عائلته في دير الزور وإرتكب المجازر بحق عشيرة الشعيطات التي ينحدر منها, الأمرالذي جعله يقاتل تنظيم الدولة.
لكن وإن كان الموقف الشخصي قد جعله يبدل قناعاته ويحارب تنظيم الدولة, فهل ثأره هذا يبرر له القتال جنبا إلى جنب مع "حزب البي كي كي" (قاصداً حزب الإتحاد الديمقراطي الكردي) الذي توعد بإبادته؟؟
التعليقات (19)