"لم أكن اشتري الليمون من الأسواق كوني مزارع ليمون واليوم اتصلت بي زوجتي وطلبت مني جلب بعض الليمون ريثما يأتي الدعم من القرية، فذهبت للسوق فإذا بسعر كيلوغرام الليمون عشرين ليرة سورية، عشرين ليرة سورية في موسم الليمون وأنا أبيعه من بستاني بليرتين فقط، فقررت اقتلاع أشجار الليمون حتى لا أكون مطية يركبها التجار وعمره ما حدا يأكل ليمون".
ذكرت تلك الحادثة لتكون مدخلاً لموضوع طريقة تأمين دمشق لحاجتها من الخضار والفواكه.
أسرار (أسواق الهال)
تعتبر أسواق الجملة المركزية للخضار والفواكه والتي يطلق عليها أسواق الهال المُغذي الرئيسي لتلك السلع في كافة المحافظات ومنها مدينة دمشق التي يقع سوق الهال فيها في منطقة تدعى بالزبلطاني، وهي في المنطقة الشرقية من مدينة دمشق، وتدير أعمال هذا السوق لجنة تسمى (لجنة تسيير أعمال سوق الهال)، ويتألف سوق الهال من عدة كتل بنائية، كل كتلة تحتوي على العديد من المتاجر، ويمكن القول بأنه كل كتلة متخصصة بنوع أو عدة أنواع من الخضار والفواكه. أما عن آلية العمل بسوق الهال فإنها تعتمد على نظام المزايدات حيث يأتي المزارع بمحصوله -الذي تعب فيه لمدة موسم كامل- إلى سوق الهال ويقف أمام إحدى المتاجر بأحدى الكتل وطبعاً بموافقة صاحب المتجر، وتبدأ المزايدة عى المحصول، ويتم البيع للسعر الأعلى، ولا يمكن لأي شخص رفع السعر عن السعر الضمني الذي إتفق عليه تجار سوق الهال ببداية اليوم.
بعد إنتهاء المزايدة يحصل تاجر سوق الهال صاحب المتجر الذي باع المزارع محصوله أمامه (وليس داخله) على عمولته من المزارع التي لا تقل عن عشرة بالمئة من القيمة الإجمالية للمحصول.
ويتساءل المرء: "بما أن سوق الهال مرفق عام لماذا يضطر المزارع أن يقف أمام متجر ليبيع محصوله مما يضطره لدفع عمولة لصاحب المتجر؟"، والجواب هنا: أي مزارع في حال عدم اتفاقه مع أحد تجار سوق الهال ليسمح له بالوقوف أمام متجره لا يمكنه أن يبيع محصوله داخل سوق الهال إطلاقاً.
الاستثمار لصالح أفرع الأمن
وكما هي العادة في دول الاستبداد فإن كبار تجار سوق الهال وأعضاء لجنة تسيير أعماله مرتبطين إرتباطاً عضوياُ مع السلطة سواء الأمنية أو التنفيذية (مجلس الوزراء والوزراء) وهناك محلات في بعض الكتل تستثمر لصالح أفرع الأمن وهم يقومون بتأجيرها، حتى أن غالبة تجار سوق الهال يمتلكون ورشات فرز وتوضيب بهدف تصدير الخضار والفواكه، ولكن حتى في حال تم شراء المحصول لصالح مشاغلهم ومن أمام متاجرهم فإن آلية العمل تتم كالسابق وعمولة التاجر محفوظة، أي أنه يشتري لصالحه ويأخذ عمولة نتيجة هذا الشراء، وطبعاً كل ذلك على حساب المزارع المسكين.
أما بالنسبة لتوزيع تلك الخضار والفواكه ضمن مدينة دمشق بشكل منافذ بيع مفرق فهذا يتم بأربع طرق وهي:
1- متاجر الخضار والفواكه المنتشرة بالأحياء الشعبية.
2- تجمع متاجر في أماكن محددة بدمشق.
3- صالات المؤسسة العامة للخزن والتسويق المنتشرة بدمشق.
4- مراكز بيع الخضار والفواكه والتي تم إنشاؤها من قبل الدولة في بعض أحياء دمشق .
وبالنسبة للمتاجر المنتشرة ضمن الأحياء وغالباً الأحياء الفقيرة والمتوسطة فإن تلك المتاجر ونتيجة لقلة أعدادها في الحي الواحد من ناحية ومن ناحية ثانية لإنتشار مفهوم "الله لا يجعل ضرره على أيدينا" وأيضاً لمعرفة أصحابها بحاجة سكان الحي لتأمين احتياجاتهم من عندهم نتيجة عدم تمكنهم من الذهاب للأسواق البعيدة، فقد تحولت تلك المتاجر لمصدر من مصادر الاحتكار دون أي ضابط فمن يريد أن يشتري فأهلاً به، ومن يحتج على سعر سلعة معينة بكل بساطة يقول له صاحب المتجر ليس لدينا شيئ نبيعه أي بمعنى آخر لن أبيعك ، وحتى وإن حدث وقام أحد سكان الحي بالشكوى (وهذا نادر الحدوث) فإن صاحب المتجر يكون على علاقة جيدة مع دورية التموين وبذلك لا يكسب المُشتكي غير سواد الوجه أمام أهل حيه.
متاجر خارج السلطة!
أما تجمع المتاجر في دمشق مثل منطقة الشعلان وباب سريجة وسوق الجمعة بمنطقة الصالحية والشيخ سعد بمنطقة المزة، فلهم شأن آخر فتلك المتاجر خارجة عن أي سلطة إن كانت رقابية أو أخلاقية، حيث ترى عندها الخضار والفواكه مرتبة ملمعة مصفوفة بشكل فني جاذب وكل ذلك بثمنه وبشكل عام لن أدخل بتفاصيل تلك التجمعات لأنها أصبحت لطبقة دمشق الراقية وهم قلة بكل الأحوال.
وبالنسبة إلى صالات المؤسسة العامة للخزن والتسويق فإنها عند إنشائها تعرضت لمنافسة شديدة من قبل مافيا تجار الخضار والفواكه، تحولت على أثرها لأشبه بمستودعات تتراكم بها الخضار والفواكه غير الجيدة مما أدى لتراكم خسائرها الأمر الذي دفع إدارتها لإتخاذ قرار بتفويض مدراء الصالات بإتخاذ أية إجراءات تنقذ صالاتهم ومنحتهم لقاء ذلك المشاركة بالربح عندها تحولت تلك الصالات بقدرة قادر من صالات مهملة لصالات ناجحة ولكنها أصبحت مشابهة لتلك المتاجر الموزعة في دمشق أي أصبحت تتعامل بنفس أساليبهم وبذلك فقدت تلك الصالات مصوغات إحداثها الذي ينحصر بتأمين إحتياجات المواطنين بأقل الاسعار.
أما الشكل الرابع من منافذ تسويق الخضار والفواكه فهو قيام محافظة دمشق بإقامة أسواق مغطاة في بعض الأحياء تم تسميتها بالأسواق الشعبية، وتم تقسيمها لمساحات صغيرة كل واحدة تم تأجيرها لبائع، ولكن إنشاء تلك الأسواق بطريقة فنية رديئة جعلتها لا تؤمن لمرتاديها أدنى نوع من الكرامة الإنسانية، وذلك أولاً لصغرها الأمر الذي يؤدي لإزدحام شديد بالبائعين وبضائعهم ، وبالمشترين الباحثين عن حاجاتهم، وثانياً لعدم تقديم الخدمات من نظافة ودورات مياه وتعبيد الأرضيات وبذلك أصبحت تلك الأسواق عبئ على االأحياء المتواجدة فيها لأنها أصبحت مصدراً للإزعاج والأوساخ وبالتالي الأمراض.
البازار
هذه الطرق الأربعة لتسويق الخضار والفواكه وما بها من مساوئ دفعتي لأن أتقدم بمقترح لاتحاد الغرف الزراعية السورية مفاده إقامة منفذ تسويقي للمزارعين المنتسبين للإتحاد لعرض منتجاتهم بشكل مباشر للمستهلكين بما يحقق العدالة بين سعر التكلفة وسعر المستهلك ويحقق أيضاً كرامة المُنتج والمُستهلك بآن واحد، وأعددت موجز دراسة عن الفكرة وتقدمت بها لرئيس الإتحاد حيث أفادني هذا الشبيح بأن أي فكرة لا تحقق المكاسب المادية لأعضاء المكتب لا تقترحها لأنه لن تحصل على الموافقة. وهكذا دُفن الموضوع، وحقيقة بأنني لما تقدمت بفكرة المنفذ التسويقي المشار إليه إعتقدت بأنني قد أتيت (برأس غليص) وأنها فكرة جديدة، ولكن لما دفعني استبداد نظام الأسد إلى اللجوء إلى تركيا ، وجدت تلك الفكرة مطبقة هنا منذ عشرات السنين وملخصها أن السلطات المحلية في كل مدينة تركية خصصت في كافة أحياء المدينة شارع يتم تحويله ليوم واحد فقط إلى سوق شعبي من المُنتج للمستهلك مباشرة تحت اسم (البازار)، وتؤمن هذه الأسواق بشكل أنيق وراقي متطلبات المواطنين من سلع الخضار والفواكه وبأسعار مقبولة لكل الأطراف، ولم ألاحظ في أي بازار زرته أي دورية رقابية سواء تموينية أو شرطية، كما لم أشهد مشاجرة واحدة بين بائع أو مستهلك عن سعر معين أو عن سوء بضاعة.
والملفت، قيام عمال البلدية وفور انتهاء البازار ليلاً بتنظيف شارع البازار وإعادته لسكانه نظيفاً وكأن لم يكن هنا منذ ساعات صخب أي سوق، وفي الأحياء التي لا يتوافر بها شارع صالح لإقامة بازار أنشأت السلطات مكانا مخصصا للبازار الأسبوعي وهو مسقوف بشكل أنيق ومزود بخدمات مثل مسجد ومغاسل ودورات مياه ويستفيد منه أهل الحي كموقف مغطى لسياراتهم في الأيام التي لا يتواجد بها بازار.
وحقيقة لما تعرفت عن كثب عن هذه التجربة في تسويق الخضار والفواكه وكيف يتم تنظيمها لتصل الفواكه والخضار للمستهلك طازجة ولا يشعر المزارع البسيط بالغبن شعرت بحسرة كبيرة، ومنبع هذه الحسرة أنني أعلم بأن اتحاد الغرف الزراعية السورية وكافة الغرف الزراعية التابعة له، في أثناء التقارب السوري التركي كان كل أسبوع تقريباً يرسل وفداً من الاتحاد أو من الغرف مكون من أعضاء مجلس الاتحاد ومجالس الغرف إلى المدن التركية، فلماذا لم ينقلوا تلك التجربة، ألم يشاهدوها وهي عمرها عشرات السنين، ولكن من كان يقضي جولته ومهمته ضمن بارات ومواخير المدن التي يوفد إليها لا يمكنه نقل أي تجربة مفيدة لأنه يكون ثملاً طوال وقت مهمته، ولا يفكر سوى بتعويض السفر الذي سيقبضه بعد عودته هذا في حال لم يقبضه قبل السفر.
هذا غيض من فيض عن تجارب ناجحة لم يتم الإستفادة منها بسبب رجال فاسدين أقحموا في مناصب ليس أهلاً لها بسبب سياسة ممنهجة من نظام البعث اتبعها منذ سطوه على السلطة مفادها ضع الشخص غير المناسب في المكان غير المناسب .
*مهندس زراعي
التعليقات (4)