الثقافة الباطنية وثقافة الكنتونات!

الثقافة الباطنية وثقافة الكنتونات!
لم تكن هذه الثورة تبصر علم الغيب. فهي ثورة في أرض واضحة المعالم يحكمها طاغية جل همه جمع المال والابتسامات والصور وقطع الطرق ككل اللصوص، وسن قوانين غابة للسلب والنهب والابتزاز!

ثورة على أرض بلا دولة قامت لإعادة تشكيل دولة تعيد للجغرافيا هيبتها وتدرك أن من فيها مواطنون وليسوا أهل ذمة، كل من خبر هذه العصابة الأسدية كان يعي أنها ستقابل الثورة بأقصى حقدها وهذا ما حصل، ولكن علم الغيب للثورة ليس هنا بل داخلها أو في من تلطى في ظلالها ثم انتشى وتضخم وتنمرد ووضعها كساعة جيب إن خرج في وسائل الإعلام أو ربطة عنق إن حضر مؤتمراً.

نعم.. لم تدرك هذه الثورة علم الغيب في فهم تلك السلالة المتناسخة من جيل ثقافة مهترئة، نمت ما بين شعارات استوردتها من امبراطورية السوفييت، وأخرى من خطابات عبد الناصر وما كان بينهما من خبايا وخفايا باطنية لبعض الأحزاب المتهالكة، التي رأت في الثورات العربية فرصتها الذهبية للانقضاض على السلطة في غياب التنظيم عن حركة الشعوب المرافقة للثورات عادة!

هؤلاء وبعض كتبة الزوايا الهامشية في صحف النظام وبعض محاضري مراكز النظام الثقافية وبعض سياسيي طاولات كأس العرق بآخر الليل، إذ كانوا بجلسة واحدة يحللون سياسة الشرق والغرب والشمال والجنوب ويعطون التوصيفات والحلول ويملؤون الهواء ثرثرة، هؤلاء كلهم لم تدرك الثورة في علم الغيب أنهم كخطر السم في الدسم، منذ إعلان المجلس الوطني إلى هذه الأيام التي يشكل ائتلافنا فيه "حكومته الثورية" وما تفرع عنه وعنها، وما زالت ثرثرة السياسة وثرثرة الثقافة تأخذ كل الواجهة.

خلال أعوام الثورة وهم يتبادلون الأدوار وقد ملؤوا الشاشات ومواقع التواصل الاجتماعي صراخاً وصورا ولم تخرج عنهم من كل تلك الجعجعة حفنة طحين واحدة، غرق الشعب بدمه وتكالبت عليه كل عصابات الأرض وبقي رفاق الشعوذة السياسية كجبل جليد فوق صدور السوريين، يمارسون ثقافة الكنتونات المغلقة كمجاميع لا تزيد عن أصابع اليد الواحدة، تشكل في مجموعها عشرات المجاميع التي لم تخطر ببال الشيطان متسللين إلى كل شيء بأقنعة تشبه تلك الكتب التي تتبدل عناوينها ولكن مضمونها واحد، يتأبطونها ليراهم جيرانهم وبعض الصبايا أنهم مثقفون!

ثقافة الماضي المرير تلك قبل الثورة بأعوام انتقلت بشكلها الباطني إلى عملهم الثوري فأصبحوا يمارسون السياسة الثورية بأنانية ويشرذمون الثورة، للأسف فقد تفوقوا بباطنيتهم السياسية والثقافية حتى على باطنية إيران ووليها الفقيه بالتعاطي مع العالم لإشباع نزواتها العنصرية البغيضة، بعضهم امتلك نشرات تحت مسمى صحافة ونال عليها تمويلا مجهولا وافتتح إذاعات ومقرات، وبعضهم تمويله كان لإنشاء مراكز تحاضر في ثقافة السلم الأهلي وحل النزاعات وطرق الحوار وإعداد البيانات "للشبك" مع منظمات المجتمع المدني الأوربية وغيرها ورعاية الروح البشرية والأخذ بعلاجها النفسي، وبعضهم شكل جمعياته الخيرية وجمع الطحين والأرز والثياب وساهم بالتعليم عن طريق أقربائه وأنسبائه وجيرانه وأصدقاء الأولاد، لا عيب في شكل كل ذلك بالتأكيد فالسوريون يحتاجون حتى الكلمة الطيبة، ولكن نشأت الباطنية التي تكلمنا عنها في ظل هذه التركيبة ونشأت معها ما قلنا عنه ثقافة الكنتونات، فأصبحت تلك المنافذ المفترضة أنها لخدمة الناس عبارة عن مغانم لخدمة الأنا لصاحب كل كنتون، بل انعكست أمراض الماضي التي ورثوها من نظام البعث، وأيضا من سياسة عربية مريضة بعشق صورها خلال عقود خلت على أدائهم وتعاطيهم مع الشأن العام وحساسية ما يعانيه السوريون!

في الحقيقة كانت هذه الثورة منصفة لهم كثيرا وفرصة عظيمة لحفظ تاريخهم، لو وقفوا بجانبها ككل الأهل الطيبين، لكن للأسف مارسوا خيبات عمرهم في إدارة ملفاتها وأقصوا من كان نظام الأسد قد أقصاهم، أو وضعوا مسافة بينهم وبين ذلك النظام كي لايتلوثوا بسلوكه، حتى آلاف الضباط والجنود الذين انشقوا عن جيش الأسد وقدموا أرواحهم على أكفهم تركوهم لمصيرهم بلا أدنى إحساس بالمسؤولية، بل أصبح الشهداء والمجازر مجرد أرقام بالنسبة لهم يتعاملون معها كما تتعامل محطات الأخبار أو كما كل الضيوف المؤقتين الذين يغطون دقائق بث ولم يفهموا أنهم مؤتمنون على هذه الدماء الطاهرة، بينما مثقفو سوريا الحقيقيون وسياسيوها اللاباطنيون انتموا للثورة بعلاقاتهم المباشرة مع الشارع وأفكاره وما أنتجه على التراب السوري وما زال الكثير منهم خلف الكواليس، هؤلاء لم يخطفوا الثورة بل يمارسون دورهم كأبناء ثورة لا قادة صالونات ثورية، إنما أصحاب هذه الصالونات كما الأسد أقصوهم لأنهم بكل بساطة لم يعيشوا معهم قبل الثورة حالة العزلة الفقهية في الثقافة والتحاضر ببضع جمل حفظوها وبضعة عناوين مسرحيّة وأسماء كتاب وموسيقيين عالميين، أقصوهم لأنهم لم يتقنوا القهقهة المرتفعة عندما يصطادون خطأ لصديق أو رفيق درب أو لعدم معرفة مواطن عادي بكتابات نيرودا أو ماركيز!

هؤلاء الذين تصدروا المشهد كانوا لا يدركون لماذا لم يتثقف مواطنوهم في سياق حياتهم القاسية التي فرضها عليهم حكم حزب البعث، ولمفارقة الزمن أن أولئك المواطنين في هذه الثورة كانوا أكثر وعيا منهم ومن خطابهم الواهن، ولعل في اللافتات التي رفعت خلال الثورة في الزبداني وكفرنبل وغيرهما دليلا على ذلك، والآن يتعالون على جراحنا بنعمة الكاميرات التي تصورهم وتفرضهم على ما بقي من أرواح السوريين المتعبة، ها هي الأحلاف الظاهر منها والباطن تسرح فوق الأرض السورية من حلف أميركا إلى حلف الأسد الروسي الإيراني إلى أحلاف العرب الباطنية التي تشبه تجمعات مثقفينا وسياسيينا إلى أحلاف الجهاد على السوريين باسم السوريين، مستقبل المنطقة كاملها على كف عفريت ورجالنا في هذا المشهد المعارض منكفئون في خزان تحت الشمس، كما رجال غسان كنفاني في قصته ينطوون على أنفسهم على أمل النجاة وحدهم في صحرائهم السياسية، ويختنقون آخذين عناوين الثورة معهم إلى الرمال التي غاصوا بها ظانين أنها ما زالت تصلح كاريزما خلاص لهم في رحلتهم تلك.

للأسف امتلكوا كل أدوات التشويه والاغتيال المعنوي والمادي لكل الأفكار التي من شأنها رفع همة الثورة والثوار وعليه إن لم يسقط هذا الطاقم المترهل الذي مثل سوريا الثورة بكنتوناته الثقافية والسياسية سيسقطنا جميعا في وحل عزلة قد تمتد لأكثر من مئة عام.

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات