الامتياز السوري: العيش مع الخوف تحت سقف واحد!

الامتياز السوري: العيش مع الخوف تحت سقف واحد!

الورقة الأولى

لم يكن امامنا خلال نصف القرن الماضي سوى التعايش مع الخوف الساكن في رؤوسنا، ننام ونستيقظ على خوف، نمشي في الطريق ونتلفت حولنا يميناً وشمالاً ونتلفت كل دقيقة الى الوراء حتى نطمئن أن لاأحد يتبعنا، ومع أننا كنا متأكدين ان (الملاكين) الذين يجلسان على أكتافنا لتوثيق سلوكنا ورصد حسناتنا وسيئاتنا من أجل حسابنا المفتوح يوم القيامة، كانا يرفعان نسخة من تقاريرهم الى الأجهزة الأمنية لتبرئة ذمتهم لأن هناك من يراقبهم في حال التقاعس عن أداء واجبهم الأمني حرصا على سلامة الوطن من أمثالنا، وهكذا تعايشنا مع الخوف، وعندما نتحاورمع بعضنا البعض كنا نتلفت حولنا خوفاً من أي غريب يتنصت علينا، ونضطر الى تغيير موضوع الحوار، حتى لو كان عن لون السماء!

الخوف هو الحقيقة الوحيدة التي مارسناها بحرية، وفي المراحل المبكرة من العمر كنا نخاف من الظلام ثم أصبحنا نخاف من عصا المعلم في المدرسة، وبعد سنوات اصبحنا نخاف من عصا الشرطي، ومن تقارير المخبرين الكاذبة، وكبر الخوف في داخلنا عندما أفلحت الأنظمة في تخويفنا من الإمبريالية، ونجحت في تحميلها كل مصائبنا بدءاً من الهزائم المتلاحقة ومروراً بالفساد والغلاء..إلخ..!

وبسبب الخوف شاركنا في مسيرات الغضب ضد الامبريالية والرجعية، واقمنا الافراح والليالي الملاح في مناسبات زيادة الرواتب والمنح النقدية التي تتكرم بها حكوماتنا لمساعدتنا في تامين الخبز ودفع فواتير الكهرباء والماء التي يتم حجبها عنا (بسبب التقنين) معظم الأيام، ومع ذلك لابد من الاعتراف أن حكوماتنا المتعاقبة كانت تدعونا الى المشاركة في الانتخابات البرلمانية وكل أنواع الانتخابات والاستفتاءات، صحيح أن أصواتنا لاتقدم ولاتؤخر في النتائج المعروفة مسبقاً، إلا اننا ومن قبيل رد الجميل للحكومة، كنا نشارك في الاحتفالات التي تقيمها بمناسبة (الفوز الكاسح) لقوائم الجبهة الوطنية التقدمية في كل الانتخابات التي كانت تجريها حتى لو كانت انتخابات لنقابة عمال التنظيفات !!

الآن أصبحنا نخاف من انقطاع الكهرباء والماء وفقدان الغاز ، ودخلنا في نفق مظلم لانهاية له ، أحلامنا تقلصت الى أدنى من رغباتنا بحياة كريمة، أسوأ أنواع الخوف هو مانعيشه الآن ونحن ننتظر قدرنا المجهول، ولانملك سوى الدعاء الى الله (اللهم لانسألك رد القضاء بل نسالك اللطف فيه).

الورقة الثانية

كان التفكير في المستقبل يشغل تفكيرنا سواء على الصعيد الفردي أو العائلي، وكان علينا ان نبحث عن الفرص المستحيلة لتوفير فرص عمل لأولادنا حسب تخصصاتهم الدراسية أو مهاراتهم التي اكتسبوها في دراساتهم، وكان الأمر في غاية الصعوبة لأن (الرفاق) وأولادهم لم يتركوا لأولادنا أي فرص للعمل ، وكأن الدولة تحولت الى مزرعة خاصة لهم، وكان الإختيار يتم حسب معدلات الولاء ونسب النفاق ومستوى الغباء، ودرجة القرابة لصاحب القرارالذي يأتي أولاده في رأس القائمة ثم باقي أفراد العائلة الكريمة، ومن يريد التأكد ليس عليه سوى الاطلاع على جداول أسماء العاملين في الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون، وكشوف أصحاب البونات والمستكتبين والمتعيشين والسائقين وموظفي الاستعلامات الذين تحولوا بقدرة قادر الى مخرجين ومهندسين بلاشهادات اختصاص ، والمضحك في الأمرهو وجود أسر كاملة من الاب والزوجة والأولاد يعملون في هذه (التكية) ويحملون كنية واحدة، وكلهم ينتمون الى الشجرة العائلية للمدراء الذين اختارتهم العناية الالهية ليتناوبوا على إدارة التكية، ومع ذلك يتساءل البعض من أصحاب القرار عن سبب تردي أداء الاعلام والتلفزيون على وجه الخصوص، ولماذا يقاطع الناس شاشاتنا الوطنية، وينصرفون لمشاهدة الفضائيات العربية الأخرى التي يتهمها الاعلام السوري بأنها عميلة وتدعو الى الفتنة وتحمل أجندات معادية للوطن!!

الورقة الثالثة

أعرف أنني أسير بخطواتي كل يوم فوق الجمر، وهذه حال معظم السوريين الذين يعيشون داخل سورية، كما أعرف أن الحياة في الخارج ستكون أكثر أمانأ لي، وقد أفوز برضا (البعض) ويخصص لي راتباً مجزياً بالدولار أو باليورو أو بالين الياباني الذي لاأعرف شكله، ويكفي أن اكتب بعض المقالات من نوع تمسيح الجوخ، وتجميل فساد بعض من سرقوا أحلامنا من قيادات معارضة نسبت لنفسها حق تمثيلنا والتحدث باسمنا زوراً، حتى أحصل على الرضا الذي يؤهلني للحصول على كل أنواع المكاسب، لكنني لن استطيع النظر الى المرآة، صحيح ان البعض اقترح عليّ مغادرة الوطن، ومساعدتي في تامين عمل، لكنني تجاهلت اقتراحاتهم، لأن وجهي ليس وجه نعمة، وليس لي في الطيب نصيب، ولا أجيد الدق على الطبلة، لكنني وبصدق لاأحب مغادرة الوطن، وأرجو أن لايفهم البعض أن ماأقوله نوع من المزاودة، لكنني أصارحكم القول، أنا لاأستطيع ترك روحي في الوطن، وأخرج بجلدي إلى أي مكان أكثر أماناً، أنا أؤمن بان المعارضة التي تتحول الى (مهنة) تصبح اكثر فساداً من النظام الذي تعارضه!

صحيح أنني وغيري نعيش في الداخل وسط الخوف والقلق ونعاني من الغلاء ومن تصرفات (السفلة) الذين ينغصون علينا حياتنا كل ساعة وكل يوم، وننتظر قدرنا بصمت العاجز، لكننا نحاول قدر الإمكان أن نتحلى بالصبر، لأنه لاخيار لدينا سوى ذلك، ونضطر في أغلب الأحيان أن نتوجه الى السماء طالبين الرحمة أو الخلاص، لكنني أقول بصدق انني اشعر بمتعة وانا أمشي في شوارع دمشق وحاراتها، وأحدق طويلاً في وجوه أبناء بلدي وأقرأ في صمتهم ومعاناتهم ما يخفف عني بعض ماأعانيه.

عندما أقرأ بعض مايكتبه الأصدقاء عن غربتهم في (الغربة) أشعربصدق معاناتهم، وأنا متأكد أنهم لن يترددوا في العودة الى الوطن، لو حصلوا على ضمان بعدم الإساءة لهم من أي طرف تسبب في خروجهم من بلدهم. .

*حاشية:

ليست المشكلة في أنك لاتعرف ، بل المشكلة في أنك تعرف وتصمت !!

التعليقات (2)

    رزوق

    ·منذ 9 سنوات 7 أشهر
    مقالة رائعة تنبض بالصدق والوطنية الصافية.. وأجمل مافيها القفلة: ليست المشكلة في أنك لاتعرف، بل المشكلة في أنك تعرف وتصمت.. فإلى كل العارفين المتمسكين بحبل الصمت الجبان.. اخرجوا عن صمتكم وكونوا عوناً لإخوانكم لتخفيف معاناتهم.. فقد طفح الدم حتى الرقاب.. وعشش الحزن على امتداد الوطن السوري.. والمركب يوشك أن يغرق بالجميع.

    jaber

    ·منذ 9 سنوات 7 أشهر
    thisis the first time i feel respect to a writer on this page. thank you mr Issa l
2

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات