ولبّت الجيوش العربية الدعوة...

ولبّت الجيوش العربية الدعوة...
يكاد يكون فيلم "ناجي العلي" للمبدع الراحل "عاطف الطيب" هو الفيلم الوحيد الذي تجرأ على تناول موضوع الاجتياح الإسرائيلي للبنان، وتواجد الجيش السوري فيه. في واحدة من أبرز لقطات الفيلم يظهر الفنان المصري المعروف "محمود الجندي" في مظهر رجل مخمور، متسائلاً "هيّ الجيوش العربية حتيجي إيمتى؟"يهجّر هذا الرجل ومن معه ويعانون ويلات الحرب، وفي النهاية يخترق الرصاص جسده ويرديه قتيلاً..

كان ذلك المشهد تجسيداً حقيقياً وصارخاً لمعاناة المواطن اللبناني، الذي ذاق ويلات الحرب الأهلية التي اندلعت عام 1975 ولم تضع أوزارها إلا في عام 1989م، بعد توقيع اتفاق الطائف، الذي فرض على اللبنانيين ممن أنهكتهم الحرب الأهلية وتبعاتها، من اجتياح إسرائيلي عام 1982، ومن قبله تدخل قوات الردع العربية، تاركة الساحة للجيش السوري كي يبسط سيطرته بفعل البسطار، ويفرض فيما بعد اتفاق الطائف، ويحوّل لبنان إلى مزرعة يرتع فيها زبانيته تحت مسمى "الحفاظ على وحدة وسلامة لبنان" لمدة قاربت الثلاثين عاماً، تمكن خلالها من تحويله إلى كانتون للنظام السوري بجميع المقاييس.

إذاً..ووفقاً لمقولة عاطف الطيب، فقد جاءت الجيوش العربية أخيراً ولكن لتركيع المواطن لا لمؤازرته، وجاءت لأغراض ليس من بينها حماية لبنان، فالمخيمات الفلسطينية فكّكت وتم ترحيل معظم قاطنيها، والبلد استبيحت من قبل إسرائيل، ليجيء التدخل العربي هزيلاً ضعيفاً بغية إبقاء الوضع على ما هو عليه على قاعدة لا غالب ولا مغلوب، ويتسنى للنظام السوري التسويق لانتصار هزيل في لبنان كمكافأة له على بلائه الحسن في قتل السوريين بدعوى محاربة "عصابة"الأخوان المسلمين، علماً أن "الجيوش العربية" التي اختصرت فيما بعد بالجيش السوري، والتي استغاث بها "الجندي " في الفيلم هي من ارتكبت مجزرة تل الزعتر بحق الفلسطينيين، وهي من استهدفت كلاً من حركة وأمل وحزب الله إبان ما سمي حينها بحرب الأخوة عام 1988 ، وهي التي لم يسلم أي فصيل لبناني من أذاها.

لم يتخلص لبنان حتى اللحظة من تبعات التواجد السوري، فالجيش اللبناني الذي أنهكته الحرب الأهلية فقد دوره السيادي على أرضه لصالح الجيش السوري حتى عام 2005، ومن بعدها لصالح ميليشيات تغلّب الانتماء الطائفي والحزبوي والمذهبي على السيادة الوطنية، وعلى ما يبدو أن اللعبة راقت للمجتمع الدولي الذي عزّز هذا الموضوع من خلال الحدّ من تمويل الجيش اللبناني، في وقت تدعم فيه كل دولة فصيلاً ممن تضمن ولاؤه، والنتيجة بلد يقبع على صفيح ساخن، السيطرة فيه للفصيل الأقوى، وبما أن "المقاومة" هي شعار المرحلة، فقد تحكم حزب الله ببلد كامل، لا وجود فيها لعدو يقاومه!

لم يختلف المشهد في العراق عن مثيله اللبناني في شيء، فالجيوش العربية تدخلت أيضاً في العراق مدّعية الحميّة للشعب الكويتي "الشقيق"، نتيجة للعدوان الذي تعرض له إبان اجتياح الجيش العراقي للكويت في الثاني من آب عام 1990، ليجيء التحالف الدولي ويستهدف الشعب العراقي ضمن عملية عرفت يومها باسم "عاصفة الصحراء"؛ هذا التحالف الذي شاركت فيه اثنتان وثلاثون دولة، بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، بينها ثماني دول عربية، طبعاً شنت هذه الحرب على الجيش العراقي الذي تفاقمت قوته عقب حرب الخليج الأولى"الحرب العراقية –الإيرانية"، التي امتدت على مدى ثماني سنوات، إذ كان تعداد مقاتليه قد وصل إلى مليون مقاتل.

طبعاً لا يمكننا تجاهل حب "صدام حسين"- الذي كان رئيساً للعراق آنذاك - للسلطة، وأنه أنهك هذا الجيش من خلال زجه بحروب "غير مبرّرة" مع اثنتين من دول الجوار، كما أنه وتر العلاقات مع الجارة الثالثة "سوريا"، أنهكت الجيش ابتداء من عام 1979 وهو العام الذي تسلم فيه الحكم، وحتى لحظة سقوط بغداد عام 2003، ولكن هذا لا يغفر أيضاً للجيوش العربية- التي كان من بينها الجيش السوري- أنها تدخلت تحت لواء القيادة الأمريكية لتقصف "الشعب العراقي"، الذي حوصر فعلياً بعد ذلك بحجة "برنامج النفط مقابل الغذاء"، وجاء هذا البرنامج كي تعوض دول التحالف خسارتها المادية في الحرب، والتي دفعتها ثمناً لأسلحة الغاية منها إبادة الشعب، معتمدين على دم هذا الشعب، لقد عانى الشعب العراقي الأمرّين خلال تلك الحقبة، كنتيجة للحصار الاقتصادي تحت ذريعة العقوبات، حيث منعت الصادرات إلى العراق، كما أن العراق أصبح بلداً منعزلاً تماماً عن العالم وترك الأمر فيه لصدام حسين كي يتحكم برقاب أبناء الشعب العراقي، فكانت النتيجة ثلاثة عشر عجاف أسفرت عن صحوات وقتل وتدمير للبنى التحتية، وتشريد للعراقيين، حتى أن عدد اللاجئين العراقيين الذين استقبلتهم سوريا وحدها وصل إلى عتبة المليوني لاجئ أو تزيد!

وحده الشعب العراقي من دفع ثمن انتمائه لبلد نفطي، يحكمه طاغية أصابه جنون العظمة فتمرّد على صانعيه، عوقب الشعب العراقي على مدى ثلاثة عشر عاماً بدعوى معاقبة صدام حسين، الذي ظل لمدة ثلاثة عشر عاماً محاصراً في العراق مع الشعب، والذي كان هو الطريدة الوحيدة التي أتيح لصدام فرصة مطاردتها.

اليوم..ما يجري في سوريا، ليس ببعيد عما حدث سابقاً في لبنان والعراق، فبعد أربع سنوات، ترك خلالها الأسد ليولغ في دماء السوريين، ويستخدم كل وسائل القتل، بما فيها الأسلحة المحظورة دولياً، تأتي الجيوش العربية لتتدخل من أجل الحد من انتشار "داعش"، التي كانت قد موّلتها وساهمت في توطيد أركانها في وقت سابق.

الدول العربية التي أقامت مؤتمراً للجهاد في مصر، داعية العرب للجهاد على أرض سوريا، بدلاً من دعوة المجتمع الدولي لإيقاف مجازر الأسد، والتي لم تكن- إلى حين عقد المؤتمر – تصل إلى حد استخدام السلاح الكيماوي، وبدلاً من دعوة حزب الله وإيران وروسيا إلى سحب مقاتليهم ووقف الدعم لنظام الأسد، بل تفتقت إبداعاتهم على فتح الحدود السورية على الغارب لاستقبال كل متطرفي العالم، الأمر الذي منح نظام الأسد الشرعية في استخدام كل أنواع الأسلحة للحد من نفوذ "الإرهابيين" الذين تم استجلابهم من كافة أصقاع المعمورة، في محاكاة لما قام به بشار الأسد عقب الاحتلال الأمريكي للعراق، من فتح حدوده لكل من يرغب في "الجهاد" في العراق، واستقبال "المجاهدين" من شتى أصقاع الأرض، هؤلاء أنفسهم الذين أصبح غالبيتهم فيما بعد نزلاء في صيدنايا، بعد العودة من العراق، لمن أتيحت له العودة سالماً!

الجيوش العربية، تتدخل اليوم ، بعد أن نزل عليها "الوحي الأمريكي"، ضمن قوات تحالف دولي لضرب تنظيم الدولة الإسلامية "داعش" في العراق وسوريا، وبعد أن" تم إخبار نظام الأسد عن موعد بدء العمليات، كتحذير لنظام الأسد من اعتراض طيران التحالف"، وفق ما ذكر وليد المعلم، وزير خارجية نظام الأسد، في وقت تجاهلت فيه الدعوات الكثيرة سابقاً للتدخل من أجل الحد من جرائم الأسد، وفي وقت يعامل فيه السوريون على أراضيها أسوأ معاملة، كل هذا لإجبار الناس على التراجع عن ثورتهم، علماً أن الطيران الغربي يتهافت على ضرب العراق بسبب ثروته النفطية الهائلة، وتترك سوريا للطيران العربي، بسبب الفائدة المادية الهزيلة من الآبار النفطية في سوريا!

طبعاً، كل الطلعات التي سجلها طيران التحالف الدولي، لم تصب – ولو حتى تحت مسمى نيران صديقة- أياً من مواقع النظام، ولم ترد أذى "داعش" عن المدنيين من الأكراد الذين نزحوا من عين العرب" كوباني"، هرباً من تنظيم الدولة الإسلامية، فيما تخرج المتحدثة باسم الأمن القومي الأمريكي"كيتلين هايدن" بتصريح هزيل، إثر مقتل مدنيين في قرية كفرد دريان في محافظة إدلب، نتيجة قصف لطيران التحالف، مفاده أن " سياسة البيت الأبيض التي حظيت بصدى واسع، والتي أعلن فيها الرئيس أوباما العام الماضي منع إجراء غارات بالطائرات بدون طيار ما لم يكن من “شبه المؤكد” عدم سقوط ضحايا من المدنيين -وهو “أعلى مستوى يمكننا الالتزام به،" معقبة على ذلك بقولها: "لا تشمل الضربات الجوية الأمريكية الحالية في سوريا والعراق"!

وحده الشعب السوري هو من سيدفع ثمن تكاليف الحملة التي يشنها طيران التحالف من دمه، من تشرده، من مستقبل أبنائه، من مقدّراته وثرواته الوطنية، تماماً كما دفع سابقيه العراقي واللبناني تكاليف الحملة العسكرية ضدهما!

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات