لقد علقت تلك الجملة برأسي وباتت تكرر نفسها طيلة تلك السنوات أي منذ عام 2001 حتى الآن، لقد عاش والدي مئة عام بالتمام والكمال وبقي محتفظاً بذاكرته وبنيته لآخر لحظة وكان يدرك ما معنى قول "علمتنا التجارب أننا دول غير مستقرة"، فبعد وفاته بعامين أي في عام 2003 هُجّر العراقيون عن بلدهم وما زالت بلاد الرافدين تبحث عن جناحي السلام المفقودين حتى الآن، وفي عام 2006 هُجّر اللبنانيون نتيجة حرب عبثية اصطنعها (حزب الله) لتغطية جريمة اغتيال الرئيس الحريري... وحتى الآن لم يزل لبنان خارج مفهوم الدولة، تتناهشه الطوائف والعصبيات بصيغ ما دون الوطنية.
في عام 2011 رحل الليبيون عن وطنهم تحت وطأة حرب شنها القذافي لتظهر الأحداث أن هذا الرجل وخلال سنوات حكمه كان قد أوغل في قتل هذا الشعب الطيب وطموحه وعليه ما زال الليبيون يبحثون عن صيغة يسمونها وطن، أيضاً في عام 2011 شن الأسد حرباً من أقذر الحروب التي لا يمكن لعاقل تصورها وشردنا وشرد معنا أشقاءنا الفلسطينيين بعد نكبة عمرهم السابقة ليساهموا بأخوة النكبة الجديدة، سرد مرير إن خضنا في ما جرى للجغرافيا في هذه المنطقة، فحتى السودان أصبح سودانين واليمن على كف عفريت، ومصر الخارجة من قانون الإخوان إلى قانون العسكر والقابضة على النار في دور الانتظار.
أما الجغرافيا السورية وما حملته من مكونات بشرية لها انتماءاتها الإثنية والقومية المختلفة وما غزاها من الجوار لتدعيم جريمة الشرخ الاجتماعي والإنساني بين أبناء البلد برعاية رسمية، هذه الجغرافيا كافية للتفحص بآلامنا العربية، فمن منا كان في عام 2001 حين سمعت تلك الكلمات يتصور ذلك؟ هي ليست نبوءة تنجيم أو ما شابه فقد ابتدأها والدي بجملة "علمتنا التجارب"، وهي تجارب مئة عام جاهد خلالها ضد الفرنسي والدكتاتوريات مع ما حملته له ذاكرة الآباء لتمتد التجربة بمجملها لأكثر من قرن أي للسنوات الأخيرة من الحكم العثماني، فالقول إنها "دول غير مستقرة" يعني بالنتيجة أنها دول غير مكتملة، ولم تنجح فيها معاني الوطنية التي ترسخ الانتماء عبر قوانين تتضمن الحقوق والواجبات، فما زالت تدور في فلك البحث عم هوية، حتى أخوتنا الفلسطينيون برغم توحد المأساة فقد أصبحوا فلسطينيو غزة، وفلسطينيو الضفة، وداخل أراضي 1948 وفلسطينيو الشتات الذين زادتهم دول أشقائهم وما جرى فيها شتاتاً آخر كفلسطينيي سوريا وقبلهم العراق، فترى ماذا سيقول السوريون بعد حين وقد ذاقوا مرارة الشتات بالجوار وما بعد البحار؟.
أما الجوار وتلك الصداقات التي كان يجب ألا نتركها كيف يمكن أن نفهمها الآن؟
أصدقائي اللبنانيون لم أتجرأ حتى بالاتصال بهم كي لا أجهد نفسي بالدفاع عن قيم الحرية التي ثرنا لأجلها، بل من المؤلم أن يحقق معك مبدع مفترض عن سبب الإرهاب إذا كان قدوة بعضهم زياد الرحباني وملهم بعضهم الآخر مارسيل خليفة الذي أبى أن يساهم بلحن بسيط لثورة لطالما خدع الناس بانتمائه لآلامهم، وبعضهم مثلهم النضالي حسن نصر الله الذي استل خنجره وطعن السوريين، فماذا سيقول بقية السوريين الذين فتحوا بيوتهم في عام 2006 باعتبارهم أهل وليسوا أصدقاء، أما أصدقاؤنا العراقيون فقد أصبحوا في عواصم الغرب والتواصل معهم هو تواصل من يشكي الدموع لعين أخرى دامعة فإيران مصيبتنا ومصيبتهم، أما الأصدقاء في الخليج العربي وبعد أول ثلاثة أشهر من الثورة تواروا خلف بضعة كلمات من الدعاء، واستراحوا ورويداً رويداً نسوا حتى الدعاء لنا.
والسؤال هنا: هل كان للصداقات قبل مئة عام معانٍ أخرى تدفع أصحابها لسلوك آخر؟ هنا لا بد من استذكار حادثة قد تصف المعنى، قبل ما يقارب ثلاثين عاماً حدث إشكال في الأردن الشقيق مع بعض السوريين وسجن أحد الأشخاص فاستنجدوا بوالدي ذلك الفلاح الذي لا يملك إيديولوجيا علّ علاقاته القديمة تحل مشكلة، وفعلاً أخذ ورقة بسيطة من مفكرة جيب وخط عليها بضعة كلمات تحت عنوان "أخونا وصديقنا فلان" وأرسلها لصديق لم يره منذ خمسينات القرن الماضي، كانت كافية لإظهار الصداقة وحفظ الود والمساهمة بحل مشكلة، فماذا جرى في الألفية الجديدة وكيف استنفرت إرادة الانتقام من السوريين في دول الأشقاء؟ فهل الاستقرار له علاقة بالطباع أيضاً وعليه باتت طباع الناس غير منتظمة وغير منسجمة مع ذاتها، وماذا بعد في جعبة هذه الجغرافيا قبل أن نصل إلى مفهوم الدولة الوطنية التي من خلالها يتعاطى الشقيق مع شقيقه والصديق مع صديقه إن لم يكن بمفهوم الأخوة والصداقة فليكن بمفهموم القانون.
لعله قبل مئة عام كان هناك قانون اجتماعي حمل آداب من نوع آخر، تبنتها العشيرة والعائلة التي اعتقد الفكر اليساري والقومي وما تمحور حولهما أنها جزء من التخلف، وإذ بهذه الإيديولوجيات المختلفة تظهر تخلفاً يعود بنا إلى عصر الكهوف الحجرية في علاقة الإنسان مع مركب الخوف، وغريزة الأنا، حين تتنامى بلا ضوابط، وهذا أيضاً يقودنا إلى فهم حتى ظاهرة التشبيح والنهب والتفنن بالانتقام من كل شيء داخل سوريا نفسها، والذي مارسه علينا أصدقاء وشركاء الأمس في ذات الوطن!
من باب آخر: أظهرت العقلية الطائفية البغيضة أنها ما زالت أدنى حتى من مفهوم العشيرة والقبيلة، فكلاهما على الأقل مازلنا نقرأ عنهما شعراً يؤرخ عن إغاثة الملهوف وحفظ الأمانة وهو ما لم تتقنه حتى الآن دول تتغنى براياتها الوطنية، وكأن الوطن هو راية وشعار وكفى وليس مجموعة قيم وقوانين. بالتأكيد ليس هذا السرد دفاعاً عن العشائرية والقبلية والعائلية بوجه مثقفي الأمة ومفكريها وتياراتها وأحزابها، بل مجرد استذكار في مسيرة بحثنا عن شكل الدولة الوطنية التي تحمي كرامة مواطنيها، حيث مأساة السوريين المتفاعلة والمتدحرجة، ولجوئهم المفاجئ لأشقائهم، فضحت عورات فكر وانتماءات... وليس فقط عورات دول!
التعليقات (1)