حمص في (ماء الفضة): الكاميرا أداة استجواب للقاتل!

حمص في (ماء الفضة): الكاميرا أداة استجواب للقاتل!
يروي فيلم (ماء الفضة) بمونتاج حاذق للمخرج السوري أسامة محمد، مأساة الشعب السوري، منذ بداية الثورة حتى حصار حمص وخروج الثائرين منها. إيقاع بصري يرتل الحزن كادراً كادر، ويحكي الحكاية من البداية. لا حياة يعيشها السوريون منذ قيام الثورة، والموت الذي يطبع حياتهم، لا حقته كاميرا موبايل المخرجة الشابة (وئام بدرخان)، شريكة محمد بالفيلم، الفيلم الذي عرض مساء الاثنين الفائت على قناة (آرتي) الفرنسية- الألمانية، بعد عرضه للمرة الأولى في المسابقة غير الرسمية لمهرجان كان السينمائي في دورته الـ67 الصيف الفائت.

العنف والقتل والمجازر اليومية والتجويع التي مارسها النظام بحق مدنية حمص المحاصرة، تفصيلات شديدة المأساوية، لاحقتها كاميرا الفيلم عن قرب، وكأن خشبة الخلاص الوحيدة تكمن في تحويل الصورة لوثيقة وتاريخ، نلجأ إليها هرباً من عبثية الموت، كاميرا ترصد يوميات الحصار بإيقاع شديد التخير.

الصورة التي هربت على الرغم من الحصار، فضحت الحصار، الحصار الذي كان فجيعة في الواقع، وأصبح فجيعة كارثية في الشريط البصري، خصوصاً أنه يقدم موتنا بطريقة فنية، بعيدة عن التصورات النمطية لنشرات الأخبار، طريقة تصوغ حياتنا الصعبة، كيف يقاوم الناس الموت، كي لا يتحولوا إلى أرقام في نشرات الأخبار.

كاميرا الفيلم ترصد الفيلم نفسه، حيث أن الحصار وتقطيع الأوصال والاتصالات، لا تحول بين تبادل المراسلات بين المخرجين محمد وبدرخان، حيث تتواصل بدرخان مع محمد، المقيم قسراً في باريس، ويتفقان على اشتغال فيلم، يكون التضامن بينهم أحد أشكال التعبير عن الواقع، أجرأ من الموت نفسه، حيث شاعرية الصوت في التعليق طوال كوادر الفيلم، ليس عن طريق تألق الصورة بصرياً، فحسب وإنما عن طريق الشاعرية القصوى التي تتألق منذ بداية الفيلم حتى نهايته، الشاعرية التي تستحضر القاسي في الذات، ربما جسد محمد لم يكن عالقاً في الحصار، لكن روحه كانت هناك حتماً، حينما يقتل شاب في دوما، يتحرك لدى محمد إحساس في ضرورة محاورة الواقع عبر الكاميرا، يحاول أن يرد الدين لمن مات من أجلنا، يتواصل مع بدرخان العالقة في الحصار، يشجعها على الاستمرار في الحياة، لكي يتحول الموت إلى شيء أكبر من القاتل، لكي يصبح القتيل، النور الذي يطل على ظلمات السوريون في الحصار.

أهم من الفيلم فنياً، والذي كان بمظهر رفيع المستوى، اشتغاله على تبريز التاريخ بصرياً، القاتل الذي لا يرغب أن يكون مرئياً حينما يقتل القتيل، حيث تكون الكاميرا بين القاتل والقتيل، تدين القاتل وتنتصر للقتيل، بحيث يكون القاتل فيها مرئياً والقتيل يصارع قاتله حتى لا يهدر دمه مجاناً، هذه السيرة الذاتية للثائرين، سيرة تتحول فيها الكاميرا أداة استجواب للقاتل، وانتصار للقتيل الذي يحلم بالحرية، والكاميرا تلعب الدور الأساسي في خط الأحداث، هذا من جهة.

من جهة أخرى، قدرة الفيلم على إحداث هامش بديل للسينما بمعناها السائد وثائقياً وروائياً، سينما الثورة، حيث تستحضر آلاف الصور، التي تلتصق بالواقع وتحاول أن تلم بكل تفاصيله، وتنقله بصدقية عالية، لتقديم شريط بصري خاص جداً عن الثورة بالعموم، وحمص بالتخصيص، والقابل للتعميم على السيرة التراجيدية السورية، مثيراً أسئلة عن حجم الكارثة التي وصلتها المدينة اليوم، والتي لم تعد المدينة الجميلة التي كنا نعرفها بالأمس القريب!

في مشهد لجامع خالد بن الوليد، يذكرنا الدمار، بماضي المدينة الجميل، ولا يقل عنه مشهد يرصد طفلاً، واقفاً في قبالة قبر والده، محدثاً إياه بمرح طفولي يثقل كاهله شيخوخة ذاكرة مبكرة، والموسيقى في خلفية المشاهد، لا تقل روعة عن الشريط البصري والتعليق الشعري، حيث تسمع أوبرا حزينة وخافتة.

حينما بدأت المخرجة بدرخان التصوير، الذي أستغرق أكثر من سنة، وبواسطة كاميرا موبايل، وفي ظل أجواء حرب كلية يشنها النظام على الشعب الأعزل، لم تكن تدري لا هي ولا المخرج محمد، أن الكوادر ستكون صالحة لشيء أكبر من فيلم، ستكون الشاهدة على تحولات ثورة ومدينة ، تغييرات أحدثها النظام/ العدو.

فيلم (ماء الفضة) لمخرجيه أسامة محمد و وئام بدرخان، يعكس الرغبة بالحياة على الرغم من المحاولات الهشة للنيل منها، في وجه الدمار الهائل والموت الأسود، إنه فيلم عن شجاعة ومقاومة شعب استثنائي لإجرام استثنائي، بالمعنى الواسع للكلمة، والفيلم كان فرصة سانحة للإفصاح عن كل هذه التفصيلات الخاصة، في وقت ما زال الموت الأسود يحوم في حمص وباقي الأراضي السورية، وما زال السوريون يحافظون على الأمل حياً، وسيبقى حياً ما بقيت الثورة حية.

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات