كلهم في"الداعشية" سواء!

كلهم في"الداعشية" سواء!
ساهمت الثورة السورية على مدى سنوات أربع في إدراج الكثير من المفاهيم التي لم تكن موجودة ما قبل الثورة، من أهم عوامل إيجاد هذه المفاهيم، مسألة التوجهات الفكرية الجديدة التي طرحت خلال هذه السنوات، والتي هي – في الغالب- نتيجة حتمية لاختلاف شكل الصراع عن التقليدي، إذ قلما ورد في كتب التاريخ أن يصمت العالم عن إحراق بلد بالكامل، لأجل بقاء شخص، والحادثة التي تكاد تكون الوحيدة في التاريخ هي حقبة (فرانكو) التي امتدت على مدى ستة وثلاثين عاماً بعد انتهاء الحرب الأهلية الإسبانية التي اندلعت إبان قيامه بانقلاب عسكري.. حيث أسهم كل من (موسوليني) و(هتلر) في تثبيت حكم (فرانكو)، الذي امتد حتى وفاته عن ثلاثة وثمانين عاماً، على الرغم من المليون شهيد الذين قضوا نتيجة الحرب الأهلية، وبمساعدة من الجنود المغاربة، أبناء منطقة الريف المغربية.

سوريا اليوم أيضاً تحترق كلها كما وعد "شبيحة الأسد" منذ بداية الثورة، من خلال شعاراتهم التي أطلقوها من قبيل: "الأسد أو نحرق البلد!"، ولكن أقسى من الحرق هو ما يجري من تقسيمها إلى كانتونات صغيرة متنافرة فكرياً وإيديولوجياً إلى حد التشظي، الأمر الذي ولّد حالة من التناحر فيما بينها، وأسهم في ولادة التيارات "الداعشية"، بين أفراد الملل والقوميات المختلفة والمتنوعة على امتداد رقعة سوريا الجغرافية، كل ذلك جاء نتيجة حتمية للفعل ورد الفعل اللذان ينوء كاهل البلد بحملهما.

قد يستهجن البعض مصطلح "التيارات الداعشية"، نظراً لأن تسمية داعش عادة ما تطلق على أتباع تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام، والمتهم بالتطرف والأصولية، غير أن "التيار الداعشي" هنا هو توصيف لكل حالة تتجه نحو التطرف لتثبت كيانها، وترمي إلى إقصاء الآخر بغية الحصول على شرعية لا يمتلك أدواتها، أو على أقل تقدير، لديه مشكلة تواصل تجعله غير مؤهل للدفاع عن شرعيته، فيلتجئ إلى الأساليب التي وإن لم تتبن أسلوب" داعش" في قطع الرؤوس، ولكنها في جوهرها لا تختلف، من حيث الإقصائية، عن قطع الرؤوس في شيء!

وقد أضحت وسائل التواصل الاجتماعي تربة خصبة لتعزيز هذه النزعة "الداعشية" عند روادها، فالكثير من الأسماء المستعارة تعمل على إذكاء هذه الحرائق العنصرية، وعادة ما ينجرّ الناس إلى معارك جانبية لا ناقة لهم فيها ولا جمل، دونما أدنى استقصاء حول الأرضية التاريخية أو الفكرية، أو حتى تبيان هوية حامل هذا الاسم المستعار!

في الفترة الأخيرة اندلعت حرب قومجية ضروس عنوانها "الجمهورية السورية" أو "الجمهورية العربية السورية"، وكأننا انتهينا من نظام الأسد، ومن كل استحقاقات اليوم التالي لسقوطه، ولم يبق لنا إلا اسم الجمهورية، غير أن بعض الجهات الكردية في خطوة "داعشية" تعد سابقة، وقفت في وجه شهادات الثانوية العامة الممنوحة من قبل الائتلاف لوجود تسمية "الجمهورية العربية"، قائلة بأنها لجأت إلى هذا الإجراء بسبب تنكر الائتلاف للاتفاق المبرم معه على اعتماد تسمية "الجمهورية السورية"، غير أن المفارقة هنا تكمن في أن هذه الخطوة التي قامروا من خلالها بمستقبل كل الطلاب –علماً أن غالبيتهم من العرب، فالطلاب في المناطق الكردية قدموا امتحاناتهم عن طريق وزارة التربية في الجمهورية العربية السورية، الخاضعة لسيطرة النظام بحماية من قبل وحدات الحماية الكردية- بغية الحصول على هدف سياسي! وما الفارق بينهم وبين من يقطع الرؤوس زعماً منه أنه يريد إقامة دولة إسلامية؟ كلٌّ يعتبر هدفه هو الأسمى ويضرب بعرض الحائط بكل الاعتبارات الأخرى؟..

ذهب بعض القوميين الأكراد في تعصبهم للتطاول على الدين الإسلامي بدعوى أن "القومية لدى الأكراد أولى من الدين"، ونسوا أنه حتى في أكثر دول العالم ديمقراطية، سيكونون مدانون أمام القانون إذا تطاولوا على معتقدات الآخرين الدينية، وأن هذا السلوك لا يخدم قضيتهم في شيء، ثم اتجهوا إلى نسبة "جهاد النكاح" للنساء العربيات، بدعوى أن كل مسلم هو" داعش"، ونسوا أن النظام السوري حين روّج لهذا المفهوم، روجه حول المعارضة ككل، ولم يطلقه على طيف معين من أطياف المعارضة، وأنهم بتثبيت هذه المقولة إنما يسيئون إلى نسائهم أيضاً! طبعاً لا يمكننا أن ننكر أن ردة فعلهم هذه جاءت كرد على دعوات بعض "الدواعش" الحقيقيين المؤيدة لسبي النسوة الإيزيديات، ولكن هذا لا يبرر لهم سقوطهم في المنزلق الخطير الذي انزلق إليه تنظيم الدولة، والذي يستنكره طيف واسع العرب المسلمين السوريين..

كما ثبت أنه لدى بعض مدعي العلمانية "داعشهم" الذي لا يتورعون عن الاستماتة في الدفاع عنه، حتى لو اضطروا إلى "قطع رؤوس" معارضيهم، فما إن تلوح لهم بكلمة الإسلام حتى يعتبروا كل من يندرج تحت المسمى مخرباً ويستحق القتل، كثيرون منهم أبدوا شماتتهم لدى مقتل قيادات أحرار الشام في حادث غريب من نوعه أودى بحياة أكثر من خمسين مقاتلاً من مقاتلي الفصيل، عشرون منهم من قيادات الصف الأول والثاني، ومع ذلك لم تحرك هذه الحادثة أي بعد إنساني لديهم، على الأقل أدنى حد من التعاطف الإنساني مع ما يربو على خمسين أسرة مكلومة، غير أن الدواعش من أدعياء العلمانية لم يتورعوا عن إظهار شماتتهم علناً، وبغض النظر عن مواقف الكثيرين الذين أثنوا على أداء هذا الفصيل المعتدل في طروحاته الإسلامية، ولكن هؤلاء أنفسهم من شمتوا قبلاً بمقتل قائد لواء التوحيد عبد القادر الصالح، علماً أن اللواء كان يتبع للجيش الحر، ولكن لأنه يحمل اسماً أقرب إلى التسميات الإسلامية، متناسين كل المواقف التي قام بها الرجل، والتي يشهد له بها، وذهبت بهم" داعشيتهم" تلك إلى حد اتهام كل من يخالفهم الرأي حول هذه الحوادث بأنهم سذج وأغبياء في أحسن الأحوال، وفي أسوئها ذهبوا إلى التخوين والاتهام بالعمالة واعتبار أن كل من يؤيدون هذه التنظيمات يستحقون أن "يفطسوا فطس البعران"، فيما ذهب آخرون إلى أن "كل من له برنامج مختلف غن سوريا حرة علمانية" يتسم بالغباء!

بغض النظر عن المواقف الشخصية، فالناس ليسوا نعاجاً كي يرسم لهم من ينسبون لأنفسهم سمة "التنوّر" شكل البلد الذي يعيش فيه، وصندوق الاقتراع خير كفيل لهذه المسألة، أما أن تكفر وتخون كل من يخالفك الرأي، فهذا ما يسمى بـ"الداعشية" الحقّة، هذا لو صرفنا النظر عن أنهم هم أنفسهم من تباكوا على من قتلوا في مطار الطبقة، بحجة أنهم بريئون من دماء المدنيين!

هذا النهج هو ذاته النهج "الداعشي الإقصائي" الذي اعتمده أدونيس على الضفة الأخرى في رفض ثورة من قاموا ضد النظام بحجة أنها خرجت من المساجد، وكأن من خرجوا من المساجد هم خارج التقييمات ولا يحق لهم رسم ملامح البلد الذي يؤويهم، أما من هم ينظرون للبلد على أنها محطة للسياحة، فيحق لهم رسم ملامح البلد الذي يرغبون السياحة فيه!

"داعش" الحقيقي هو كل ما يلتهم العلاقات الإنسانية، كل من يضرب بمصالح الناس عرض الحائط تحقيقاً لمصلحته الخاصة، أو مصلحة تياره السياسي ، إن أحسنا الظن به، ومصلحة الأجندات التي يعمل لصالحها لو أسأناه، وحده المواطن السوري الذي ما زال يعاني من كل هؤلاء "الدواعش"، ويدفع ثمن انتمائه للبلد وتمسكه بأرضه، فيما لكل "داعشه"، وكلهم في "الداعشية" سواء!

التعليقات (2)

    مقال داعشي

    ·منذ 9 سنوات 7 أشهر
    ينتقد الكاتب الداعشية و هو منغمس فيها ، و الواضح توجهه الاسلامي في دفاعه عن احرار الشام و ووصفه لهم بالاعتدال اولا ثم اعتقاده ان الاغلبية في سورية ستقرر شكل البلد كما يروق له هو .. ما يوجد في سورية الان فوضى لن تنتهي مطلقا بشيء يفيد السوريين ، و من يملك أجندة دينية في المنطقة يحكم بخرابها مسبقا .

    نور ما رتيني

    ·منذ 9 سنوات 7 أشهر
    الأستاذ الذي علق تحت اسم "مقال داعشي" لو قرأت المقال جيداً لعرفت أني لم أتبنّ أي رأي حيال حادثة مقتل قيادات أحرار الشام ولكنني تحدثت عن رأي الغالبية بمن فيهم دعاة الدولة المدنية التي قلت أنك تؤيدها، وحاكيت الموضوع من زاوية انسانية بحتة..أما عان صندوق الاقتراع فمن أين افترضت أن نتيجته ستروق لي ؟ الأمر متروك للزمن ..ولخيارا أبناء البلد..ليس إلا!
2

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات