يالها من مهن، قاذف، قناص ، ملقم، زارع ألغام، مبرمج صواريخ بعيدة المدى، طيار حربي، وعشرات المهن الأخرى التي لا يعرفها إلا متخصص قتال أو خبير عسكري، منذ القدم ومهن الحرب تحجز مكانها بين المهن فمن السياف إلى رامي النبال ومن صانع السيف إلى صانع السهم فصانع الرصاصة والصاروخ والدبابة والمدفع، تتعدد الصنعات والأسماء والأوصاف وتتوارث الأجيال نكبات الحروب، أفلا يصح لو قلنا عنهم الميتّم والقاتل ومدمر الحياة؟ وما الوصف المناسب لرامي الكيمياوي أو الجرثومي أوالنووي أو لصانعها؟
في جيش الأسد استبسل جميع القتلة ونالوا منه أوسمة الشجاعة في السطو على كل القيم، فهذه الحرب وحدها كافية لتعرية مهن الحرب تلك ولعنة نيلها، ولعلها النموذج الحي الذي ولأول مرة في تاريخ البشرية تُنقل مآسيها على الهواء مباشرة بعد ثورة المعلومات والاتصالات، فشاهدت الناس ووثقت القاذف والقناص والطيار والناحر وغيرهم، وظهرت حلقات الرقص وزغاريد الانحراف البشري مع كل حفلة قتل، كما ظهرت في المقابل آلام الأمهات والآباء والأطفال فبدت الأوسمة كتهمة عار تلف صاحبها وبدا الراقصون كسماسرة قتل أو أفاع تنفخ سمها، وبدا حاكم القصر كمن يعترف أمام البشرية عن خطيئة البشرية الكبرى حيث أغوتها أوسمة الحرب فسقط رداء الأخلاق لتبقى الأوسمة وحدها معلقة على أجساد عارية من كل شيء إلا العار.
على مر العصور خفتت عظمة أمم ثم غابت، لتلتهم المساحة والعظمة أمم أخرى ويؤرخ المؤرخون لقائد وتُنسى ملايين البشر الذين قضوا في تلك الحروب، فإن قلنا ظهر هولاكو ترى كم عدد الذين يعرفون لأي شعب ينتمي وما هي الشعوب التي أهلكها ومن هم الجنود الذين تسابقوا لإرضائه فقتلوا، وإن قلنا ستالين فكيف سنحصي تفاصيل جرائمه وضحاياه ومن الآن يكترث له ولهم ومثله كذلك هتلر.
وحدها الحرب العالمية الثانية كان عدد القتلى خلالها يتراوح ما بين 50 ــ 85 مليون شخص بين مدني وعسكري، هكذا الرقم بكل بساطة يسجَل بفارق 35 مليون فقط، ياله من فارق يستهتر بالبشر، فهل من يحصي لنا حروب الإنسان في الإنسان منذ بدء الخليقة؟ ليصبح السؤال: أي جنس نحن وأي تاريخ نكتب وما هي مادته التي لا تحوي خلفها رائحة دم بشري؟ فإن كانت المئة عام الأخيرة قد شهدت تطور وسائل النقل لتحمل آلاف المقاتلين بأيام فقبلها غزت الأمم بعضها بجيوش جرارة تسير على القدمين والحظوة منهم يمتطون الحيوانات أو عربات الجر البسيطة، وتسير شهوراً وشهوراً لأجل معركة في جغرافيا بعيدة تقتل وتفتك وتدمر أوتُقتل، ليؤسس المنتصر على النصر، ثم يدور الزمن فيخذله البقاء ليصبح في مرمى غزو آخر، وهكذا من غزو إلى غزو ومن حرب إلى حرب يستل المؤرخون أقلامهم ليقلبوا صفحات أمم وأمم.
في سوريا لأجل كرسي حكم سيدخل بشار الأسد تلك الصفحات بنوع جديد من الحروب وبسطر واحد فقط وإن كرّمه بعض المؤرخين سيكتبه في سطر ونصف كأن يقول: ورث الحكم عن أبيه سنة كذا، ثم شن حرباً على شعبه وانتهى به المطاف مقتولاً أو مطارداً حيث رفضت جميع دول العالم استقباله إلى أن ألقي القبض عليه...
لكن مقابل كتب التاريخ فإن كتب الأدب والشعر والفنون الإنسانية وما ينبض به العقل والقلب ستريحنا إن قلنا عنها منصفة وستكتب آلاف الصفحات عن شجاعة السوريين وبطولاتهم، فاللحم أيضاً سلاح وكذلك الروح الصابرة، وقوة الكلمة سلاح وكذلك الأخلاق، لكن هذا لم يمحُ تلك النتيجة بأن مئات آلاف السوريين قضوا بنار الحرب وتحت ركام الدمار وأبخرة غازات الأسد السامة، وعليه تُقرأ التهمة الكبرى من ملفات أصدق إلى روح الإنسان القابض على الجمر وتحوي عار البشرية الأهم مهنة القتل وصانع أدواته.
السوريون حملوا السلاح أيضاً كثوار وامتلكوا أدواتهم، لكنهم وبسلاحهم افتتحوا محكمة العصر تلك ووزعوا التهم بالعدل، هم ذاتهم من صرخ للحرية فاستقبلهم الرصاص، دخلوا حاراتهم فلاحقتهم الطائرات، نام أطفالهم في أحضان أمهاتهم فتسربت سموم غازات الكيماوي لتحصدهم، ذهبوا إلى المنافي فسرقت منازلهم، تكالبت عليهم كل جماعات القتل ومصاصي الدماء واستصرخوا العالم كل العالم فإذ بسياسييه متخمين بالتهم، تهم القتل العمد وتسهيل القتل والتستر على القاتل وتغيير معالم الجريمة، إنهم سياسيون قد تقمصوا ملامح القتلة منذ الأزل، ما اضطر السوريون للقتال ليس دفاعا عن حياتهم وأطفالهم وحسب بل للحفاظ على مفردات القيم التي يجب على البشرية أن تقتنيها كزوادة لا تنضب، علها تعين أجيال الإنسانية القادمة مهما اختلفت لغتها على إعلاء كلمة الحق، وبالتأكيد فإن أرواح أطفالنا قد جعلت دعاة الحقوق البشرية في مطلع القرن الحادي والعشرين متهمين حتى نخاع التاريخ الذي سيكتب عنهم بسطر آخر خلف سطر بشار الأسد حين أثبتوا جميعاً وبالجرم المشهود أن البشرية تحمل عارها بتاريخها حين يؤرخ للقتلة على حساب الشعوب.
التعليقات (4)