الشعر هذا الجنس الأدبي ، ما هي نوعية العلاقة التي تربطك به وأنت قد مارست عشقه عقودا من الزمن؟
منذ أن فتحت عيني، على الحياة، كان للشعر حضوره الباذخ في أسرتي، إذ كان الأب يستظهر عشرات القصائد للخاني والجزري وجكرخوين، بالإضافة إلى قصائد ابن الفارض ونصوص لابن عربي والشيرازي وابن الرومي وغيرهم من المتصوفة، أحببت أن أحاكي بعض ما بت أستظهره عن طريق أبي، وأنا أستيقظ صباحاً على صوته الموزع بين تلاوة القرآن وهاتيك النصوص التي ينشدها في بيته،بما يحقق له ولعه بتذوق الشعر، ودلالات القصائد الصوفية، ووقاره-كعالم ديني- ألفت آنذاك، بعض الأراجيز، والأسجاع البدائية، الساخرة عن بعض شخصيات القرية، كمداعبات، راح بعضهم يعنى بها، ويستشهد بها، ما كان يحفزني لأقبل على تأليف الكثير منها، بل أن أدونها على الأوراق، أحملها معي لأقرأها على من ألتقيهم، وكان والدي يشجعني على كتابتها، بيد أنه كان يصرعلى أن الوزن رئيس في الشعر، وهي الملاحظة التي لم يتخل عن إسماعي إياها، حتى بعد أن صرت أحد الأصوات المعروفة في كتابة الشعر.
أجل، تشخيصك جد دقيق، الشعر غواية، والشعر عشق، وها أنا أواصل رحلتي معه، وإن كنت سأجد-كلما تعمقت تجربتي الحياتية أكثر- أن هذا النوع من الإبداع لابد من أن يوظف في سبيل القضايا الكبرى، وأن يكون للشعر دوره، بل أن لا قيمة لكل ما أكتب، أويكتبه سواي، مادام أن هناك طفلاً جائعاً في وطني أو في العالم، ناهيك من هو مشرد، أوجريح، أو متيتم، يئن تحت الأنقاض، فاقداً كل أسرته، وجيرانه.
سعيد أنا، بالاكتواء بألهبة النار، في معبد الشعر، على هذا النحو، أقرأه، بنهم، وأحاول أن أنتجه، ما استطعت، بل أحس بالألم الكبير، أنى لاحظت علي أني غارق في عالم السرد، مادام أن هناك حاجة إلى هذا العالم، في تشخيص آلام أهلي، وشعبي، ووطني، في مواجهة الظلم والاستبداد.
اللحظة الفارقة، سحر التفتق الإبداعي الأول، أو شرارة الإبداع في مجال الشعر، هل يمكن لك أن تصف لنا عناقكم الأول بالشعر وكأنكم قد دخلتم في حبكم الأول؟
هي- حقاً - لحظة تكاد تكون عصية على الوصف، لأنها اللحظة التي تعد انسكاناً في صميم الحالة الشعرية، لاسيما عندما يكون هناك وعيٌ بأهمية المنجز الشعري ، وهو لما يزل، مرتبطاً إلى الروح،بحبل مشيميته، ما يحيل الشاعر إلى مجرد مردد، وشاهد لما يراه، ويكاد لا ينفصل عنه البتة. أوافقك-هنا- الشعر معادل الحب، بل إنه الحب ذاته، ولهذا فإن شعراء الحب منذ أوفيد وإلى آخرشاعريكتب قصيدة الحب، يجدون في الشعر مايوازن أرواحهم، ويوفرلهم أسباب الاستمرارية، أنى نالت المتاعب من أرواحهم المتأججة.
ثمة متعة كبرى، أو لذة كبرى، قد تسمى ب"لذة الإبداع" يستشعرها المبدع على حقيقتها، وهويقرأ قصيدته على أول من يلتقيه، و يتأجج هذا الوهج، كلما توسعت دائرة متلقيها ، من دون أن ينقطع خيط انجذابه إليها، وتفاعله معها، مادامت قادرة على الحفاظ على ألق ديمومتها.
كنت تمارس الكتابة المسرحية حتى نهاية السبعينيات وأول الثمانينات، هل يمكن لك أن تحدثنا عن هذه التجربة، وهل انقطعتم عنها، بسبب انشغالكم بالشعر ؟
كان المسرح موازياً لعشقي للشعر، وللكتابة، فعملت منذ طفولتي في عوالمه عبرمسرحيات عدة، كتابة، وتمثيلاً، وإخراجاً، بيد أنه وبعد صدمة من قبل أحد المعنيين بأمورالثقافة، قام بتوقيفنا-أنا ومن معي ومنهم الفنان كانيوار والراحل جمال جمعة وآخرون- إذ سعى لتوقيفنا، لشل نشاط الفرقة، ماجعلني أحس باشمئزاز كبير آنذاك، وأترك عالم المسرح، وأنصرف إلى كتابة الشعر والمقال. ويبدو أن غواية الشعرالعالية، وهكذا بالنسبة للعمل الصحفي جعلاني أستمر بعيداً عن خشبة المسرح، لاسيما بعد أن نلت الشهادة الثانوية، ولم يكن في جيبي أجرة الطريق إلى دمشق لإجراء فحص-المقابلة- في المعهد العالي للفنون المسرحية، بسبب ضيق ذات اليد.
القصة .. كانت لكم نتاجات قصصية هل لكم أن تحدثنا عن تجربتكم في هذا المجال ؟
لم أكن أميز بين حدود الفنون الإبداعية، حيث كنت أرسم، وأخطط، وأكتب القصة إلى جانب المسرح والشعر. وقد كتبت الكثير من القصص القصيرة، إلى جانب مشروع-رواية- ظل مخطوطاً بعد أن تم رفض الموافقة على طباعته، وكنت وسمتها ب" على هذا العنوان ..رجاء"، بيد أن عدم طباعتها إلى جانب بعض نتاجاتي-آنذاك- جعلني أكف عن الخوض في مجال كتابة الرواية. أما القصص القصيرة فإن فضل جمع بعضها، يعود إلى أصدقاء لي، قاموا بهذه المهمة، مشكورين، وتمت طباعتها في دار" سبيريز" 2004، بعد أن طلب مدير الدار ذلك ، ومنها ما كتب ونشر في ثمانينيات القرن الماضي.
أحس أن أمامي مشاريع كثيرة لم أنجزها، ظلت حبيسة أقفاص- الحلم- أو أدراج المكتبة، ومن بينها بعض الدراسات النقدية والفكرية التي نشرت ولم أجمعها، لاسيما في ما يتعلق منها ب" المثقف والسلطة" حيث اشتغلت على هذا الكتاب في ثمانينيات القرن الماضي، وأعددت مخطوطاً بعنوان" ثنائية المثقف والسلطة: وئام أم خصام؟"، وأستطيع- الآن- أن أشخص أسباب انشغالي عن مواصلة الكتابة القصصية، وذلك بسبب الانخراط في" العمل السياسي" بل والعمل في مجال" حقوق الإنسان" و" المجتمع المدني" والعمل الصحفي، كما أن النشر الإلكتروني الذي يحقق الكثير من سبل الانتشار، يقلل من حماس النشر الورقي، ناهيك عن أنني لجأت إلى كل هذه المجالات، ليقيني أن هناك ضرورة قصوى للكلمة المباشرة، العارية، ضد آلة الاستبداد والظلم، ومن هنا، فإن كتاباتي في مواجهة انتهاكات النظام لم تتوقف حتى الآن، وهو ما أعتز به، وإن كنت في حقيقة الأمر قد خسرت الكثير إبداعيا .
الكتابة الصحفية .. هل تمارسون هذه الكتابة للتعبير عن أشياء وأحداث ولحظات سياسية مفصلية قد يصعب التعبير عنها بالشعر والقصة ؟
- نشرت مقالاتي الأولى، منذ وقت مبكر من حياتي، حيث وجدت فيها مايحقق لي مواجهة التناقضات التي تتم، إذ كنت أجدني معنياً بمعاناة أي شخص من حولي، لا أتردد في تبني قضيته، المقال الصحفي لدي وعلى امتداد عقود من تجربتي الكتابية كان عبارة عن مشروع غيري، لطالما أثرت، وفي ضوء الممكن، من قضايا الناس، البسطاء، المضطهدين، معبراً عن آلامهم، وآمالهم، وهو ما يمكن استقراؤه، من خلال أي تتبع لحصيدي في هذا المجال، وإن كان أكثره ظل مرتبطاً بأحداث ومناسبات محددة، كما هي المقالات التي كتبت ضمن إطار ربيع دمشق، أو تلك التي كتبت في مواجهة النظام أثناء انتفاضة 2004، أو ماكتبته منذ آذار2011 وحتى الآن، منحازاً لثورة السوريين ضد آلة الدمار والقتل والإبادة.
ما هو لغز العلاقة الحميمة بين أجناس أدبية وكتابية متعددة لدى مختبركم الإبداعي والصحفي؟
صحيح أن لكتابة المقال الصحفي-العابر- لغته، وأن لكتابة المقال الأدبي لغته، كما أن لكتابة القصيدة لغتها، وأن لكتابة القصة أوالمسرحية لغتهما ، بيد أن هناك في الحقيقة تساوقاً بين هذه الأشكال الكتابية، وقد جاءت ثورة الاتصالات، لتؤكد، أن الأجناس الأدبية، تتكامل، وتتفاعل، وتستفيد من بعضها بعضاً، ولعل معرفة انعكاس كل ذلك في تجربتي الكتابية- بعامة - تظل من شأن غيري.
في المشهد السوري المأساوي والوطن يستباح تاريخا وتراثا وشعبا وحضارة وجمالا وطبيعة وبيئة، نتيجة فساد واستبداد النظام، وقمعه للشعب السوري الثائر من أجل الحرية والديمقراطية والتعددية، كيف ترون الوضع السوري في ظل اشتداد التطرف الديني واستفحال النزاع الطائفي في سورية والعراق ؟
ما وصلنا إليه، لم يحدث اعتباطاً، هو امتداد، بل نتاج ماقام به النظام السوري ضد شعبنا السوري عبر ثلاث سنوات ونيف. ثمة ما أشرت إليه، في أحد مقالاتي أثناء التفجيرات الإرهابية التي كانت تتم في-العراق- وهو أن النظام السوري يقاتل على أرض غيره، في حرب استباقية، كان هذا بُعيْد سقوط بغداد، أجل، النظام كان وراء استيلاد الإرهاب في العراق، وبينه ورموزه علاقات عميقة، ماحدا بأكثر من واحد من وجوه النظام أن يهددوا السوريين، بأن عدم قبولهم بمجازر النظام، وقمعه، ودماره، سيجعله في مواجهة مصير أسوأ، وكانوا جادين في وعيدهم، وهو مانشهده، الآن، بأم أعيننا، لذلك، فإن علينا ألا نفرق بين هذين الوجهين القبيحين: إرهاب النظام، وإرهاب التكفيريين، فأولهما حاضنة الثاني، وإن كنا سنجد أن الثاني سيلحق الأذى في بعض المواقع، يصانعه، بل بعموم صانعيه، ليعود إلى طبيعة وبنية الإرهاب الذي لا يوثق به، وهو يغير جلده، بحسب مصالح موجهيه، ورغبة أصحاب تلك الأصابع التي توجهه هنا أو هناك.
التعليقات (0)