(سلم إلى دمشق) لمحمد ملص: هل يمنح صكوك غفران لطائفة النظام؟!

(سلم إلى دمشق) لمحمد ملص: هل يمنح صكوك غفران لطائفة النظام؟!
دمشق لم تمت في فيلم (أحلام المدينة) للمخرج السوري محمد ملص، دمشق تحتضر في فيلمه الأخير(سلم إلى دمشق). هذه الجملة سمعناها بصرياً طوال كوادر الفيلم، الذي عرض مؤخراً في العاصمة الفرنسية (باريس) بدعوة خاصة من النادي السينمائي السوري.

الخط الأول في دراما الفيلم حاول أن يرصد دمشق ما قبل الثورة. مجتمع يحاول أن يعيش حياة عامرة، ولكن شعوراً الذنب يطارد الكل، دين يبحث عمن يسدده للتاريخ، أفراد لا يشعر بهم أحد، قضوا سنوات بالسجون والمعتقلات، وآخرين قضوا إعداماً أو تحت التعذيب، شاب مهووس بالسينما يطارد فتاة، يعتقد أنه قادر على اشتغال فيلم حول قصتها التي تتقمص فيها دور فتاة ماتت غرقاً بعد أن زج بأبيها في السجون!

الضمير المطمئن غير المكترث بالأزمة الوطنية في الثمانينات من القرن المنصرم، والضامن لحياة آمنة لمرتكبي هذه الجرائم متجلياً بالنظام وأزلامه، والتقاعس عن تحقيق الواجب المتجسد بالعدالة، عبر لغة سينمائية شاعرية وإيقاع هادئ، موضوعات يخوض الفيلم في ثناياها عبر حكايات الشخصيات وخلفيةالأحداث، بحساسية شاعر لا بلغة منبرية وضجيج وزعيق. يحاكم المشكلة بضخامتها، لا يخفف من وطأتها سوى انعطافة مفاجئة نحو مباشرة فجة يحاول فيها ملص عبر عدة كوادر مفضوحة، أن يبرئ الطائفة المهيمنة على الدولة من دم الطائفة التي غُزيت (بضم الغين) من شبيحتهم. هنا الطائفة لا تفضل قتل الآخرين، ولا تملك فكراً يؤمن بقمعهم، بحسب زعم الشريط البصري. كل ما يفعلونه لا يتعدى كونهم ضحايا مثلنا.إنها محاولة لتقديم صكوك الغفران لطائفية النظام وللطائفة الحاكمة!

بعيداً عن الفني يرغب التاريخ، أن يكون حاضراً دائماً، إن مسح جزء من الذاكرة التاريخية بدعوى الذاكرة الفنية، شيء غير محبب البتة، بل هو قبيح، إنه جحيم الأسد وطائفته، الذي أفنى مئات الآلاف من الأجساد، وبإرادة حرة من الطائفة، كل ذلك لا يمكن أن يمر، دون إبداء ملاحظات عليه، وإبداء ملاحظة على ملص الذي قبل أن يمر كل هذا التاريخ بلا ثمن حتى لو كان الحد الأدنى. ربما قال ملص جزءاً من سبب الرعب الذي نعيشه الآن، ولكنه أخفى السبب الجوهري، للرعب المعاش... وهو ما يحرمنا من طريق بديل، كان ممكناً لو أن الضمير الجماعي طمأن الضحايا، ليس النظام وحده سبب العدم، بل سبب العدم هي الطائفة التي تنتج هذا العدم، فقدان معايير المعرفة التي تم تجاهلها بالكوادر الأولى من الشريط البصري، تجعل من الفيلم يدين النظام ويبرئه، بذات الوقت، لأن المجرم هنا لا يحصل على الجزاء الذي يستحقه فنياً، عن ذنب لن يغفره له مئات الآلاف من الأبرياء بين قتيل ومعتقل ومنفي ومعاق.

الخط الدرامي الثاني للفيلم يتجسد سينمائياً وكأنه الشعر البصري والكتابي. ترحل صورة مؤسسة للحظة مقدسة في البيت الدمشقي، وتحل صورة أخرى مكانها، فيها شبح الموت وهواء الحقد، صور يتزاحم الشريط البصري فيها، ليضعها في قلق القلب وذاكرة الدم المنعشة.

في لحظة دمشقية فارة من الزمن استطاعت كاميرا ملص، أن ترصد كل ذلك من لحظات ذاتية وأخرى جماعية، تجمع شباباً من تنوع الجغرافيا والثقافة السورية، مفعماً بسينما المؤلف، التي تداعب كوادر تتجاوز منحاها الصوري نحو تلمس زوايا فردية بريئة حيناً، وموجهة حيناً آخر، يربطها كلها بمونتاج يتكلف خلق فيلماً مغايراً عن المألوف. هنا يبدو المعطى الشعري حاضر فيه بكثافة من خلال عناصر الشاعرية في صوره وفضاءاته، عبر معالجة جمالية متقنة ومتأنية، تتغيى إبطاء مقصوداً للكاميرا، بين الغرف وساحة البيت، تروى حكايات تسرد الواقع السوري الزاخر بالأبيض والأسود، وإن كان الأسود يترقى المشهد، بصمات فنية تذكر بفيلمه"أحلام المدينة"ولكن هنا المدينة معطى أسود بعكس معطى الحلم الأبيض آنذاك، الذي كان يتغنى به ملص بصرياً.

وأنا أشاهد فيلم (سلم إلى دمشق) لمحمد ملص، كنت أتساءل ما الذي جعل طاقة سينمائية وشخصية موهوبة مثل محمد ملص، يزج في سياق شريط بصري مميز بعض الكوادر التي تخلط المقاييس، ويتداخل فيها الحق بالباطل؟! هنا لا نملك سوى أن نتأسف ونطرح سؤالاً: هل وظيفة السينمائي أن يبرئ الجلاد وطائفته؟! دروب الفن والحياة تتقاطع وتتفارق أحياناً، ولكن هنا لا بد للشريط أن يتخذ منحى النقد العميق، نحو مصائر بشر ووجود يكاد أن ينهار.

فيلم (سلم إلى دمشق) شريط بصري حكايته تمتح من الواقع السوري، وتسرد ضمن رؤية مؤلف سينمائي، ينصف المعطى السردي الحكائي حيناً، ولا ينصفه حيناً آخر، ويتخذ الشعري مكانه فيه، يحضر مع المضمون ويتماهى معه، في تجربة سينمائية واقعية، تلخص تجربة إنسانية سورية جديدة، على خلفية واقع ثورة تنشد حياة أخرى بعيدة عن الفقر، وعيشاً يتعالى بعيداً عن الذل!

التعليقات (1)

    أبو علي الشامي

    ·منذ 9 سنوات 8 أشهر
    ذاكرتنا البصرية وواقعنا الأليم المعاش أقوى وأصلب من الذاكرة الفنية المصطنعة أو ما يريد ملص وغيره من مرتزقة الفن فرضه على عقولنا التي حطمت قيود وبرامج الطغاة لفرض التغييب الفكري علينا ... لن ننسى ولن نسامح أيها الشبيحة.. لن نسى ولن نسامح أيها العلويون ..ليس منكم للأسف الاّ شبيح مجرم أو من يلقي بالأرز والورود على رأس القتلة والمغتصبين منكم أو ساكت غير مبالي بدماء الأبرياء ربما لانشغاله بالتسوق في أسواق غنائم السنة
1

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات