ألف ميل من الجثث السورية

ألف ميل من الجثث السورية

كان من حق السوريين أن يشعروا بالأمل لأن مسيرة الألف ميل من الحرية قد بدأت بخطوة في ربيع عام 2011؛ لكن الخطوات التالية التي تبعتها من قبل حاكمهم كانت دامية بامتياز. كان من حقهم أن يدركوا بأن عقارب الساعة لا يمكنها الرجوع إلى الوراء, مهما حاول النظام المجرم وأتباعه وطوابيره الخامسة تشويه ثورتهم والالتفاف عليها, مستحضراً عناصر المؤامرة الخارجية والحرب الكونية, واصفاً القائمين عليها بالمندسين والمخربين والوهابيين والإرهابيين والتكفيريين.., لكن الأمر خرج عن إراداتهم ورغباتهم...

أثبت السوريون أنهم ليسوا رجالاً في مسلسل « باب الحارة» فحسب؛ بل هم رجال بكل معنى الكلمة؛ ويقفون في وجه أكثر الأنظمة إرهاباً وقتلاً وتدميراً؛ ويقدمون أرواحهم رخيصة فداءً لحريتهم ومستقبلهم.. لقد تجمعوا أثناء المظاهرات السلمية, ومن ثم اضطرت فئة منهم – الفئة الأشجع – إلى حمل السلاح, كي تحدث تغييراً نوعياً ينقل البلد إلى منعطف تاريخي جديد؛ لكن الخط البياني لهذه الفئة راح ينخفض تارة, ويرتفع تارة أخرى, مع تقدمها أو توقفها أو تراجعها في ميادين القتال.

لم تكن الحرب في سورية حرباً مذهبية أو طائفية أو عرقية, وإنما كانت حرباً بين الشعب السوري الثائر بكل أطيافه وبين نظام آل الأسد المستبد الحاكم بكل مكوناته. وهذا النظام هو أول من استخدم مصطلح «الفتنة» بعد انطلاق الثورة مباشرة؛ وذلك عبر رجال الدين السائرين في فلكه والخادمين لأجندته, والأبواق السياسية والإعلامية المحلية واللبنانية الناطقة باسمه. فبدلاً من امتلاك الجرأة والرجولة الكافية للاعتراف بالأخطاء التي ارتكبها طوال فترة حكمه للبلد, ومراجعة الذات وتقديم التنازلات للشعب, استعان بنظرية المؤامرة والاستهداف الخارجي لصمود نظامه (الواقف أبداً) في وجه المخططات الإمبريالية – الصهيونية في المنطقة.

تخبط وتعثر كثيراً في إثبات صحة نظريته هذه: اعتقل – في بداية الأحداث – شاباً مصرياً رأى نفسه صدفة بين جموع المحتجين, وراح يصور ما يجري أمامه. وجد ضالته الغريزية فيه عندما اتضح أنه يحمل الجنسية الأمريكية, وتنطبق عليه مواصفات المندس المُرسل من وراء البحار كي يشعل فتيل الثورة السورية. لكن رغم براءته عقدوا معه صفقة مقابل إخراجه من السجن والسماح له بالمغادرة؛ بحيث يظهر على القنوات الرسمية ويصرح بأنه أُرسل بمهمة خاصة لتصوير الأحداث (المفبركة) في سورية وإرسالها إلى جهات خارجية, مقابل مبالغ كبيرة من الدولارات.. بعد الإفراج عنه سافر إلى بلده وصرح بأنه أُجبر على الاعتراف بأشياء لقنتها له الأجهزة الأمنية مقابل إطلاق سراحه!

بعد أن انكشفت كذبة نيسان راحوا يبحثوا من جديد عن شماعة أخرى, فوجودها بسكان مخيم الرمل الجنوبي في اللاذقية, حيث لاحظوا رفع أحدهم للافتة كتب عليها «فلسطين حرة»؛ ما اضطرهم إلى إظهار شخصيات ورموز فلسطينية مؤيدة لهم – من سورية وخارجها – على شاشات فضائياتهم من أجل تفنيد الخبر؛ وإظهار الفلسطينيين مؤيدين لنهج الأسد الممانع لإسرائيل والمدافع عن قضيتهم التي استثمر فيها كثيراً!

في غضون ذلك جاء دور الأمير السعودي بندر بن سلطان الذي اعتقدوا بأنه هو من وضع خطة سميت باسمه لقلب النظام السوري؛ وذلك بالتعاون مع السفير الأميركي السابق في لبنان جيفري فيلتمان، وبتمويل وصل إلى 2 مليار دولار.. تألفت هذه الخطة الجهنمية من بنود كثيرة وتفاصيل دقيقة، تتقاطع وبشكل كبير مع ما شهدته درعا من اضطرابات – حسبما صرحت وسائل الإعلام السورية الرسمية!

تعتمد الخطة «استراتيجياً» على استغلال رغبة الناس المشروعة في الحرية والكرامة والتخلص من الفساد, وتحويل رغباتهم إلى ثورة عارمة على النظام, وإقناعهم بأن طريق الإصلاح من داخل النظام مغلق, وأن الحل الوحيد يكمن في إشعال ثورة شاملة ضده، واستخدام كلمات براقة ومحببة للناس، فالكل يحب الحرية والعدل والكرامة ويكره الظلم والفساد والذل... أما «تكتيكياً»، فقد قسمت الخطة سورية إلى ثلاث مناطق: مدن كبرى, مدن صغرى, قرى. وتم أيضاً إنشاء خمسة أنواع من الشبكات.. إلى ما هنالك من كذب ونفاق وتزوير...

للمعلوم فإن هذه الخطة وضعت بعد حرب التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية على العراق, وكشف النقاب عنها موقع «فيلكا إسرائيل» عام 2008؛ ولم يستطع واضعوها تنفيذها. كما أنها لم تكن بهذا الأسلوب المزيف الذي نشره النظام؛ بل كانت أكبر وأعمق بكثير من ذلك!

إذا كانت هذه الخطة محكمة وسرية ودقيقة, فكيف إذن عرف بها الموقع العبري؟ ألا يدل كشفها وإظهارها للعلن أن إسرائيل تحب حكام سورية, وتخاف عليهم كثيراً؟!

فشلت وسائل الإعلام السورية الرسمية بتمرير هذه الخطة, وإقناع المواطنين بها؛ ما دعاها للبحث عن شماعة جديدة تعلق عليها سقوطها, فوجدت ضالتها بجماعة المستقبل اللبنانية وبعض نوابها البرلمانيين؛ حيث بث التلفزيون الرسمي السوري في شهر نيسان 2011 اعترافات عن تورط نائب كتلة المستقبل جمال الجراح بدعم جماعات إرهابية, هدفها إثارة الفوضى في المدن السورية. وبعد ذلك دخل سفير الأسد في لبنان علي عبد الكريم على خط الاتهامات السورية بعدما كانت محصورة بوسائل الإعلام الداعمة للأسد؛ مطالباً السلطات اللبنانية اتخاذ الإجراءات اللازمة بحق نائب المستقبل!

ثم خرجت – تلك الوسائل – بموال جديد يتعلق بمصادرة كمية كبيرة من الأسلحة المرسلة إلى سورية من جهة العراق. بعد ذلك جاء دور الأردن وقطر والسعودية وتركيا تباعاً؛ ولم ينسوا بين الحين والحين ذكر إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية لتكتمل صورة المؤامرة الكونية؛ التي خططت لإطلاق ما يعرف بـ «ثورات الربيع العربي»؛ حتى تصل في آخر المطاف إلى سورية وتقلب نظام الحكم الوطني القومي المقاوم الممانع فيها!

لا أعرف إلى أي مدى يمكن لنظام الأسد أن يكذب ويلفق بهذا الشكل الوقح السافر؟!

ربما يعتقد أنه ذكي جداً, والناس أغبياء إلى درجة يستطيع فيها خداعهم, وكأنهم يعيشون في العصر الحجري؛ ولا يتابعون سوى وسائل إعلامه الأكثر خشبية وتخلفاً بين جميع وسائل الإعلام العالمية الأخرى, لأن القائمين عليها ليس لهم أية علاقة بالإعلام وتقنياته الحديثة, لا من قريب ولا من بعيد, وتسيطر عليهم النمطية الوظيفية وهواجس الشك والخوف الأمنية؟!

لم تصمد نظرية المؤامرة طويلاً أمام الحقائق الدامغة والمعطيات التي تحققت على الأرض؛ والتي لا يمكن دحضها أو نفيها بأي شكل من الأشكال, في عالم متغير يستطيع فيه كل شخص أن يصبح شاهد عيان على الأحداث الجارية أمامه, وإعلامياً ميدانياً يستفيد من التكنولوجيا المتطورة!

كل أساليب الكذب والخداع والتلفيق لم تنفع النظام, فقد انكشف مسلسل أكاذيبه الإعلامية عارياً أمام الحقائق الراسخة والمثبتة التي قدمها حينذاك الناشطون والإعلاميون الثوريون الأوائل المنتشرون في كل مكان, وفي كل زاوية, مما زاد الهوة بينه وبين شعبه!

بعد كل هذا الفشل الإعلامي التضليلي لجأ إلى خياره العسكري القاتل والمدمر, فقد راح يستخدم كل ما في جعبته من أسلحة ثقيلة وذخائر فتاكة, ولم يتوان أبداً عن استخدام السلاح الكيماوي ضد شعبه في أماكن مختلفة من المناطق المشتعلة, كان لها نتائج وخيمة, كما حدث في الغوطتين!

لكن كل هذا الحقد والإجرام بحق شعبه لم ينفعه بشيء؛ فقد أخذت قواته تتراجع وتترنح تحت ضربات قوى الثورة المسلحة. وكاد يسقط نظامه بين الفينة والأخرى, لولا إحساس معلميه – الولي الفقيه الطائفي الإيراني والفاشي الروسي بوتين – بأنهما سيخسران أهم قلاعهما الحصينة في المنطقة؛ فبادروا إلى إنقاذه عن طريق تزويده بالأسلحة والذخائر, ومن ثم أمر المليشيات الشيعية المنتشرة في العالم – لبنان, العراق, أفغانستان, – بالتوجه للقتال إلى جانب عميلهما المدلل بشار الأسد؛ لتتوازن الكفة نوعاً ما, وتعود قواته – بفضل أولئك المرتزقة – إلى أحذ زمام المبادرة من جديد. لكن هذا التدخل الخارجي السافر لم يغير كثيراً من المعادلة, ولم يحقق النصر المؤزر الذي كان الأسد يبتغيه ويحلم به؛ ما دفع زعيم حزب الله حسن نصر الله إلى الإقرار بأنه كان على ميلشياته الذهاب إلى سورية منذ زمن بعيد!

لم يستطع الأسد تحقيق انتصاره المزعوم رغم كل ما يملكه من أسلحة وقوات وداعمين محليين ومرتزقة طائفيين ومساعدين إقليميين ومساندين دوليين.., لذلك تم التفكير باستخدام الإسلاميين المفرج عنهم من سجونه وسجون زميله بالإجرام المالكي, بالإضافة للجهاديين القادمين إلى سورية من جميع أنحاء العالم, وجر أكثرهم وحشية ودموية وبربرية – تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) – للمعركة ضد الثوار والفصائل المقاتلة للأسد, من أجل إضعافهم وتشتيت قواهم والقضاء على ثورتهم, مختلقين لذلك الكثير من الحجج الواهية التي لا تستند إلى شواهد وأدلة مقنعة, متهمين جميع من يقف ضدهم, أو لا يتقبلهم, بالردة والكفر والزندقة...

ابتليت أراضي الثوار المحررة بإرهابيين من الدرجة الممتازة, والذين لا يعرفون سوى القتل والذبح والنحر؛ ومجرمين يتلذذون بتعذيب ضحاياهم وصلبهم وجلدهم وسلخهم؛ ويتمتعون بقطع الرؤوس والتقاط الصور التذكارية معها؛ ومن ثم تعليقها بالساحات العامة!

لا محاكم ولا شرع ولا دين؛ رغم أنهم يدعون أنهم الممثلين الحقيقيين الوحيدين للإسلام!

قام هؤلاء بمعارك وهمية أشبه بالمسرحيات ضد قوات الأسد, لكنهم بعد أن يكونوا قد اتفقوا معها مسبقاً؛ من أجل إيهام عناصرهم ومؤيديهم أنهم يقاتلون الأسد أيضاً. وخير مثال على ذلك معارك حقل الشاعر والفرقة 17 واللواء 93؛ فكيف يمكن أن نصدق سقوط هذا الأخير خلال 4 ساعات, وهو أقوى وأضخم لواء في الجيش العربي السوري؛ بينما حاصرته كتائب وألوية الثوار فترة طويلة ولم تتقدم شبراً واحداً فيه؟!

الجميع يظهر تنظيم داعش بأنه كلي القدرة, ويعرض صور إجرام عناصره التي فاقت الخيال, ولا يحرك ساكناً من أجل وقف توغله الدموي بأراضي الثوار, وإجرامه بحق الشعب السوري الذي لا يقل بنوعيته وبربريته عن إجرام الأسد!

العالم على اطلاع تام بما يحدث في سورية, ولكنه لا يفعل شيئاً لمنع حدوث الكوارث والمآسي هنا؛ مثلما لم يفعل شيئاً في دول أخرى – رواندا, الشيشان, البوسنة... – كل ذلك يحفر جرحاً غائراً في القلب لن يندمل أبداً؛ لأن مسيرة الألف ميل من حرية السوريين تحولت إلى ألف ميل من جثثهم!

التعليقات (1)

    صحفي من تشرين

    ·منذ 9 سنوات 8 أشهر
    متل ماكنت متوقع ماحتتحمل ديمقراطيتك حريتي السيد رئيس التحرير وبعدين ليش ماتعلنونها علنا إنكم مع داعش... معروفة أفلامكن
1

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات