في الحقيقة كانت النتائج السياسية للحرب العالمية الثانية كارثية ليس من حيث الحصيلة المادية المباشرة لتلك الحرب من ضحايا ودمار وحسب، وإنما تلك التي أخرجت توازن للقوى يضبط إيقاعه ما سمي بمجلس الأمن الدولي هو بحد ذاته كان المصيبة الكبرى التي ساهمت برعاية القتل المنظم عبر الحروب ونشر الكراهية بين الكثير من الشعوب، لكن بإيقاع يتلاءم مع مصالح دول كبرى لم تراعِ أية قيم مجتمعية أو إنسانية ولم تقدم لنا أية تجربة ناجحة ومتكاملة في الزمان والمكان لإيقاف أي صراع، تطور بالتوازي مع ذلك القانون المدني الداخلي في كل دول المنظومة الغربية ولم يتطور هذا القانون في أي من الدول الأخرى المسماة عظمى أو كبرى وهي الصين وروسيا، لا شك أن الصين ساهمت في تحريك وتنويع البيئة الصناعية الدولية وأعطت مجالا لمواطنيها للتفاعل مع التكنولوجيا بينما روسيا أخرجت مواطنيها من قمقم الشيوعية وبلادة سياسييها وعسكرها المتغطرس إلى كهف الديكتاتورية الأمنية التي لم تقدم سوى البلاهة السياسية فأسست لعقود قادمة من الكراهية لهذه الدولة.
فبين تجربة كمبوديا شرقا ورائحة الجرائم التي قدرتها الإحصائيات لحدود ثلاثة ملايين ضحية ومن ثم الصراع الفيتنامي الكمبودي برعاية دموية روسية صينية مشتركة إلى مذابح البوسنة في قلب أوربا إلى الجرائم الصهيونية في فلسطين أو المذابح والمجاعة في إفريقيا وغيرها الكثير من الجرائم ضد الإنسانية بقيت هذه الدول تدير الصراعات المتنقلة التي تحصد ملايين البشر تحت عناوين مختلفة، وفي نهاية كل صراع كان الغرب يحصد نتائج مؤقتة بتقديمه الضمادات والمسكنات من خلال عناوين الحرية والعدالة والديموقراطية والسلم الأهلي وما إلى ذلك من عناوين براقة لم تأخذ أي طابع جدي، وبقيت روسيا تحصد نتائج الخيبات الأخلاقية والإنسانية والسياسية، وبذلك استثمر الغرب الدهاء السياسي لدبلوماسيته ونفوذه واقتصاده في اتجاهين مختلفين، مناطق الصراع الجغرافية وأيضا كيل الصفعات لذلك الدب الروسي وإظهاره كمهرج في سيرك، ومع انطلاقة الربيع العربي ومن ثم انتكاساته بقيت سوريا هي المعيارية الأهم بما تحمله من حجم هائل للشواهد والملفات المثبتة بالصوت والصورة والتي توضح مدى انحطاط القيم التي أنتجتها تلك السياسة الدولية خلال العقود الماضية، فما حصل ويحصل بالتأكيد ليس وليد ساعته، ولكن الجديد بالموضوع أن صفة المهرج هذه المرة انتقلت من الروس إلى الأميريكان، فبدا السيد (أوباما) مجرد مذيع للأخبار في محطة درجة ثالثة وبدا وزير خارجيته السيد (كيري) تماما كما ذلك المهرج البهلواني في حلبات السيرك!
لا يعني هنا أن السيد (بوتين) أو السيد (لافروف) قد انتصرا سياسيا وقلبا المعادلة، هما بالنتيجة خاسران ويعلمان أنهما سيجران معهما ثقافة الأسد ومركزهم الثقافي من عاصمة لطالما قدمت الثقافة للبشرية، لن ينفع الروس إعلان مؤسستهم العسكرية مؤخراً أنهم سيبدؤون بتحديث مرفأ طرطوس في مطلع العام القادم وتوسعته لتقديم الخدمات لسفنهم الكبرى معتقدين أن بهذا الإعلان يمررون خبر أن الأسد باق والثورة إلى الزوال وهم منتصرون بسياستهم، فبالنسبة للذاكرة السورية أصبح بوتين نسخة عن ملالي إيران الإرهابي، وعندما قرر السوريون كنس هذا العفن من تاريخ وجغرافيا سوريا هذا يعني بالنتيجة تطهير البلاد من كل مسببات هذا العفن إن كانت إقليمية أو أممية، لكن الملفت للنظر أن الغرب المستثمر بالعناوين البراقة للحرية والحقوق والعدالة قد وضعته ملفات السوريين المثبتة ليس بخانة المتهم بخيانة عناوينه المعتادة وحسب بل بخيانة حتى هيبته المفترضة، عدا عن اتهام السوريين له بشراكته المباشرة بدمهم، ويكفي هنا أن يبرز السوريون وثائق جريمة السلاح الكيمياوي بحقهم فكيف لو ترافق ذلك مع ملايين الجرائم الموثقة!
لقد أصبحت رؤية السيد (كيري) على شاشات التلفزة وهو يمارس مهامه الديبلوماسية المتنقلة، تشبه أخبار السيرك الروسي الرخيص الذي كان يتجول على الأراضي السورية لعقود قبل الثورة، وكانت معروفة سلفا ما تحويه حقائب المهرج في ذلك السيرك، وعليه فإن خروج الأميريكان من مأزقهم السياسي يعني بالضرورة خروج السيد (أوباما) بمظهر قائد دولة عظمى، راميا مهنته المستحدثة كمذيع أخبار... وبالتالي استقالة السيد (كيري) من السيرك الرخيص لاستلامه مهام رجل الدولة الذي يدرك ما يقوله ويدرك أن عقارب الساعة السورية تقطر دما آدمياً؛ وهذا يبدأ أيضاً بتوضيح المسافة الفاصلة بين بهلوانية الأسد السياسية وبين تلك البهلوانية الأميريكية التي لم تعد مقبولة بأية حال من الأحوال إلا إذا اعتبرنا أن مصيبة البشرية الحالية ليست في الجرائم المرتكبة والمتكررة بحق الانسانية وحدها، بل بافتقارها إلى ضامن أخلاقي يطمئن الأجيال القادمة أنها لن تتعرض لمذابح فيها من القبح ما يفقد الإنسان تصنيفه. وهذا يعني عدم وجود قادة تاريخيين حالياً تحسب لهم ولدولهم أنهم قادوا البشرية من ضفة الكارثة إلى ضفة الأمان.
التعليقات (0)