عندما توالت أحجار دومينو المنظومة الشرقية بالتساقط واحدة تلو الأخرى قبل نحو أربع وعشرين سنة، وخروجها من كهف الاستبداد السوفييتي ومن أفكاره التي أهدرت وقت وطاقات وابداع شعوب بأكملها لما حملته عقول سياسييها من مفاهيم متحجرة، لم تورث إلا أجيالا بائسة مهشمة لا تملك أدواتها لقراءة حاضرها ومستقبلها، مع دفن تلك المنظومة بدأ نمو الأمل لدى شعوب ما يسمى العالم الثالث بإمكانية الانعتاق من الحكم الشمولي الذي كان يدور في فلك تلك النظم الشرقية ويقلد أداءها وبرامجها بطريقة متهالكة، ومنها ما عانينا نحن منه في سوريا، لم يكن لدى تلك الشعوب الطموح بأن تتحرر من هيمنة النظم البليدة لتنتقل إلى رحمة المنظومة الغربية التي لم ترع حرية أي شعب سوى شعوبها هي، بل كان الأمل يصب في خانة إعادة البحث عن طاقات انسانية يجب تسخيرها داخليا لإعادة مفاهيم الحياة وتطورها إلى سياقها الطبيعي، كما لم يعتقد أحد أن تلك الديكتاتوريات التي حماها الاتحاد السوفييتي بوقاحة خلال عقود سيتكفل الغرب بعد تفكك منظومة حلف وارسو في تموز عام 1991 برعايتها عبر الاستهتار بحقوق الناس وتطلعاتهم، فغابت تلك الآمال واندثرت في غياهب النسيان إلى أن جاء الربيع العربي ليجدد توضيب الإرادة داخل النفوس وتهيئتها لتتصدى لكل عناصر الظلم التاريخي التي ألمّت بها، وفي طريقها فضحت الشرق والغرب معاً ووضعته على قائمة الاتهام عندما أوغل بالتلذذ بصور أطفالنا المدفونة تحت الركام وتابع بذلك الدلال المنقطع النظير للنظام السوري الذي اختصر كل حثالات الأنظمة الشمولية عبر التاريخ، لكن روسيا التي كان من المفترض أنها لا تشبه والداها المتحجر الاتحاد السوفييتي أثبتت أنها المولودة اللزجة لدرجة قدرتها على لصق كل قذارة الدكتاتوريات بجلدها، وبذلك استغلها الغرب ليبدو هو كمدافع بريء عن الحريات مقابل غطرستها، لتأتي الثورة الأوكرانية كمتمم لصرخة ربيعنا العربي وتعلن للملأ أن ذلك الدب الروسي لم يكن لزجاً فحسب، بل كان رخوياً لحدود التماهي مع كل ما هو فاسد ومقزز. لم يكن موقف روسيا من الثورة الأوكرانية واستعدائها السافر وغير الأخلاقي لها حدثا مثيراً، إنما وبعد مسيرة سياسية مليئة بالموبقات تصبح معها تلك التصرفات المنفلتة من أي عقال دبلوماسي أو قانوني أو قيمي مجرد استكمال طبيعي لنموذج قادة يبدو أن حركة التاريخ تحتاجهم ليظهر لقارئ التاريخ كم كانت تلك الثورات ضرورة ملحة لعودة الإنسانية إلى فعل شيء يليق بها، هو تماما أشبه بعملية جراحية لابد منها لإزالة خثرة دموية كانت ستودي بحياة أمم.
ما حاول البسطاء من قوميين ويساريين وشبيحة أمميين تسويقه عن عودة الركن الروسي إلى مكانه كمقرر وفاعل في توازنات القوى هو أشبه بذلك القول: (إذا ما أراد الله إهلاك نملة أطال جناحيها فسيقت إلى العطب)، فهذا النظام الذي يحكم روسيا دون أن يقدم نموذجا حقيقيا لدولة ممكن أن يحتذى بها والاستظلال بعظمتها وقيمها، سبق ووضعه السوريون الذين قاموا بثورة تحمل كل معاني النبل والقيم في مكانه الطبيعي مع مجرمي التاريخ الفاسدين، بل قاموا بتأريخ إحدى جمعهم تحت عنوان (روسيا تقتل أطفالنا) وذلك في 10/2/2012 أي قبل عامين من ثورة أوكرانيا، ثم (جمعة روسيا شريك قتل لا وسيط سلام) وذلك في 14/2/2014 أي قبل أيام من هروب ربيب روسيا هناك فيكتور يانوكوفيتش، من الممكن أن يمارس بعض الأشخاص السياسة خارج الأضواء بعقلية المرابي، لكن أن يأخذ أحدهم موقع رئيس الدولة ويتمتع بتلك العقلية فهذا بحد ذاته مصيبة، فكيف إن كانت تلك الدولة تملك حقا أمميا بالنقض يتحكم بمصير دول. ليس من السهولة تأهيل القادة أخلاقيا بعد أن يصلوا إلى مناصبهم لكن من المجدي بل من الملح أن تنتقل البشرية لقانون يشبه قانون المال الذي يقول إن على أي مسؤول تسجيل ممتلكاته عند استلامه منصب ليتم جردها بعد انتهاء عمله، بحيث يصبح لزاما على القائد أن يسجل ما يمتلكه من قيم كي نعرف ماذا سيبني أو سيخرب عند انتهاء صلاحية تماثيله في الساحات.
إن تلك اللعبة الصبيانية بتبديل الكراسي بين بوتين وميدفيدف بستار الديموقراطية الطوباوية أسوة بنظرية الإشتراكية الطوباوية الموجودة في نشرة نوفوستي التي تكرمت بها القيادة الشيوعية السوفيتية على شعوبنا أيام زمان، كافية لنتأمل المشهد من داخل زخرفات الكرملن الخيالية، حيث بوتين يستدعي ميدفيدف ويسأله لو كان الدور عليك بالكرسي وكنت مكاني كيف ستتصرف؟ فيندهش رئيس وزرائه حيث لم يصدق نفسه كما لم نصدق نحن أنه استلم الرئاسة يوما ما.
لكن السؤال يبقى هل المستنقع الأوكراني سيغرق النظام الروسي، هذا ما يتساءله شعبنا الذي أسف أنه ترك في عاصمته دمشق مساحة من الأرض الطيبة حوت مايسمى بالمركز الثقافي الروسي، حيث تجلت محصلة ثقافة النظام الروسي بثقافة الدم والحقد التي حصدت الأبرياء، ولهذا فقلوبنا تنبض هذه الأيام مع صرخات الأوكرانيين لأجل الحرية، على أمل أن يغرق ذاك النظام في وحل فساده هو، ويزهر الربيع الأوكراني في الساحة الحمراء.
التعليقات (2)