في ثمانينات القرن الماضي دخلت لسوريا زراعة أزهار القطف، وحقيقة دخلت عن طريق جهود خاصة لبعض المزارعين السوريين لاسيما في منطقة الزبداني التابعة لمحافظة ريف دمشق.
وأذكر عندما كنت طالبا في كلية الزراعة في السنة الثانية قمت أنا ومجموعة من الأصدقاء ببناء بيت بلاستيكي في الزبداني بهدف زراعة القرنفل. وكم من المفارقات التي حدثت معنا أثناء تركيب هذا البيت نتيجة قلة خبرتنا في ذلك الوقت.
المهم انتشرت زراعة أزهار القطف بكثرة لدرجة وصلت فيها عدد البيوت البلاستيكية المخصصة لزراعة أزهار القطف لحوالي 1500 بيت بلاستيكي في الزبداني وحدها، مع تفنن المزارعين بإدخال أصناف جديدة، وانتشرت مثلاُ زراعة القرنفل في الزبداني وامتدت تلك الزراعة لمجمل المناطق في سوريا فزرع القرنفل في الزبداني والسويداء وزُرعت أزهار الجلاديولس في سهول غرب دمشق (الدروشة – خان الشيح) والمنثور والزنبق البلدي في الغوطة الشرقية والغربية، وأدى هذا التوسع في زراعة أزهار القطف إلى زيادة الإنتاج وصولاُ للاكتفاء الذاتي. وأصبح هناك كميات مناسبة للتصدير.
انتقلت تلك الزراعات للمناطق الساحلية، بسبب عاملين الاول انتشار القطع العسكرية على مجمل الأراضي السورية، وانتباه ضباط الجيش السوري لتلك الزراعات التي تلبي توظيف مسروقاتهم في محافظاتهم الساحلية، والسبب الاخر هو التسهيلات المصرفية المقدمة من قبل الحكومة لمزارعي المناطق الساحلية حصراُ، فقام هؤلاء الضباط بنقل تلك الزراعات إلى محافظاتهم الساحلية عن طريق تسخير عناصرهم من أبناء مناطق زراعة أزهار القطف.
ونتيجة لاختلاف عوامل المناخ بين المناطق الساحلية والمناطق الداخلية، حيث تتميز الاولى باعتدال درجات الحرارة شتاءُ على عكس المناطق الداخلية التي تتميز بشتاء بارد (لا سيما في المناطق الجبلية مثل الزبداني والسويداء)، فإن تلك الزراعة في المناطق الساحلية لا تحتاج لتدفئة شتاءً الأمر الذي يؤدي لخفض تكلفة الإنتاج مقارنة بالمناطق الداخلية، ومن ناحية أخرى عدم اهتمام مزارعي المناطق الساحلية - وهم في غالبيتهم من الموظفين في السلك المدني أو العسكري- بتحقيق ربحية عالية نتيجة عدم اعتمادهم بمعيشتهم عليها هذا بدوره ادى لانهيار الأسعار لما دون تكلفة الإنتاج في المناطق الداخلية.
لم تدرك الحكومات السورية المتعاقبة في عهد الأسد الأب والإبن أهمية هذه الزراعة من حيث تغطية الاحتياج المحلي وتأمين العملة الصعبة في حال تصديرها، على عكس حكومات الدول المجاورة مثل الأردن، التي أنشأت لها قسماُ خاصا في وزارة الزراعة الأردنية ورفدت هذا القطاع بالخبرات التي تم تدريبها على هذا النوع من الزراعة ووفرت الدعم اللوجستي لتسويق هذه السلع مثل الاتفاقيات الدولية وتسهيل نقلها عبر الجو من خلال شركات الطيران الوطنية، كما منعت احتكار التجار لتلك السلع وتحكمهم بالاسعار وذلك من خلال تأمين أمكنة خاصة للتسويق أو ما يعرف ببورصة أزهار القطف.
وفي الوقت ذاته أدى الإهمال من قبل الحكومات السورية لتراجع تلك الزراعة فبدأ المزارعون في المناطق الداخلية بالبحث عن حلول فردية بعيداُ عن الدعم والاهتمام الحكومي ومن تلك الحلول إنشاء جمعيات أهلية لتسويق هذا المحصول الهام، فاصطدموا بواقع قانون الطوارئ الذي يمنع ذلك من جهة، ومن جهة أخرى تسلط منتفعي الاتحاد العام للفلاحين على فكرة الجمعيات التسويقية بنموذحها الفاشل، هذا بالإضافة لتنبه بعض المستفيدين من هذا القطاع من التجار الشركاء مع أصحاب النفوذ لتلك المحاولات فقاموا بوأدها مباشرة عن طريق شراء ذمم بعض المزارعين بتقديم القروض لهم قبل الزراعة شريطة عدم مشاركتهم أخوانهم المزارعين بإنشاء تلك الجمعيات.
ولم يستطع المزارعون في المناطق الداخلية من تحمل الضغوطات المتمثلة بانهيار الأسعار لما دون تكلفة الإنتاج. فبدأ الانتاج يتراجع نتيجة إزالة بعض البيوت البلاستيكية من ناحية ومن ناحية أخرى عدم الاهتمام بالبيوت المتبقية.
في عام 2003 وحينما تشكلت حكومة (محمد ناجي عطري) وتم تسمية (عبد الله الدردري) نائبا لرئيس مجلس الوزراء للشؤون الاقتصادية، وسميت تلك الحكومة بحكومة الإصلاح الاقتصادي، توسم مزارعو أزهار القطف ببعض الأمل بأن تهتم الحكومة بهذا القطاع فقمت بإعداد دراسة متكاملة لإقامة بورصة أزهار قطف على غرار ما هو موجود بالدول المجاورة، لتساهم تلك البورصة بتسويق محصول أزهار القطف بما يضمن حقوق المزارعين من جهة وحقوق المستهلكين، وتقدمت بتلك الدراسة لمكتب (الدردري) الذي شكل فريق عمل من بعض الأشخاص لدراسة هذا المقترح وتم عقد عدة اجتماعات معي لفهم آلية عمل تلك البورصة التي أصر (الدردري) على عدم تسميتها ببورصة الأزهار مثلما هو جارٍ في دول الجوار فأسميتها (سوق دمشق لأزهار القطف)، وكانت توصية هذا الفريق بعد الاجتماعات والمناقشات بأن الموضوع هام وذو جدوى اقتصادية وأوصى بمقابلة عبد الله الدردري لي ليتم توضيح ما يمكن عمله لإنجاح هذه الفكرة،
وكان ما يهمني بموضوع المقابلة تأمين قطعة أرض في إحدى حدائق دمشق لإقامة (البورصة) عليها، وبدأت دوامة تحديد موعد مع سيادة النائب، ولم أتمكن من لقائه على الإطلاق، ولا أعرف السبب، وعندما اجتمعت معه في اجتماع آخر قلت له عن سبب التأخر فأبدى عدم اهتمامه بالموضوع، وهكذا نسي الموضوع مع العلم بأن دراسة إقامة السوق ما زالت محفوظة عندي.
هذا هو الاهتمام الحكومي الإصلاحي في حكومات الأسد الذي يضرب جهود مزارعين بعرض الحائط.
التعليقات (1)