في الثورة السورية كان النظام هو الرائد في صناعة المشهد المثير مثل تسليم الأطفال الذين استشهدوا تحت التعذيب لذويهم أو القصف بالكيمياوي أو استعمال البراميل البدائية لتدمير الإنسان والمكان وما إلى ذلك، كانت المظاهرات الأولى حدثاً عظيما ومحركاً مهما بما حملته من معان وطنية وأهازيج شعبية وتحد شجاع، ثم أصبحت رقماً بتعدادها، ثم رافقتها الانشقاقات الأولى للضباط والمجندين لتصبح هي الحدث المثير لكنها أيضاً باتت مشهداً عادياً.
لم تكن حتى خطابات الأسد تعني السوريين بشيء سوى مادة إعلامية لتمرير الوقت أو فاصلا دعائيا بين سلسلة مأساتهم المروعة. في خضم هذه المأساة لم تمر فكرة خارجة عن السياق العام، تشكل مجلسهم الوطني وبعده ائتلاف وطني ثم حكومة مؤقتة، تشكلت مجالس محلية على امتداد الوطن وقبلها تنسيقيات من كل حدب وصوب، تشكلت كتائب وألوية وتسابقت بالبحث عن أسماء لها علها تثير شيئاً لدى السوريين، تشكلت هيئات وجمعيات للإغاثة وأحزاب ولقاءات وهكذا تنوع الكوكتيل السوري وكثرت الألغاز، لكن السوريين استمروا في ترقبهم لشيء ما ينجز لهم فكرة تخرجهم من روتين الألم والوداع والمناشدة والترقب، أصبح الدمار رفيق دربهم والدماء تصبغ يومياتهم، وأضحى الموت فكرة عادية في سرد حكاياهم، والنزوح تتمة خبر لديهم. تظهر على التلفاز قادة دول عظمى وكبرى لكي يدلوا بدلوهم في مصابنا لكنهم أصبحوا كبائعي الأكفان أو عارضي إعلانات.
وهكذا حتى الدول العظمى لا تملك أفكارا عظيمة تحول أنظار السوريين من روتينهم اليومي إلى مفصل يدوّنونه في كتب تاريخهم، وحدها فكرة ثورتهم في آذار 2011 كانت في وقتها وحجزت مكانها في قلوبهم وتاريخهم، تتصاعد نبرة الكلام على صفحاتهم الفيسبوكية وغيرها ثم تهبط لكنها تغرقهم بشعور العزلة والوحدة والندب ويتنافسون في فراغ لا يشبه سوى تنسيقياتهم وكتائبهم لتصبح كل قرية وحارة لها صفحتها ومتابعيها ويبقى الوطن بلا صفحة تجمعهم، تمر في تقليبهم اليومي للبحث عن جديد في صفحات جديدة تحمل فكرة في هذا الفراغ المبهم فتظهر مبادرة هنا أو حملة لمنصب رئاسي لكنهم وفي طريق بحثهم عن وطن لم يعد حتى منصب الرئاسة فكرة فاصلة، بل أيضا مرت كفاصل كوميدي من الكوميديا السوداء الرديئة، ربما بعض الأفكار قد تبدو للوهلة الاولى مثيرة، لكنها في حقيقة أمرها تدل على سبب الترهل السياسي والفكري الذي أصاب بعض هذه المعارضة بعد أن لمعها الإعلام لأكثر من أربعين شهراً ليعبئ بها فراغ الفواصل ويحشو رأس المشاهد بالمواد الإعلامية التي كانت تساهم في خلط الأوراق وبذلك اختلط مفهومنا لكلمة معارضة مع كلمة ثائر.
إن الفكرة التي نريد منها صناعة الحياة قد تصبح طلقة تصنع الموت عندما لا تكون بمكانها الصحيح، هكذا كانت فكرة مؤتمري جنيف وهكذا أيضا فكرة تشكيل لجان ومندوبي هيئات ومراقبين بداية من الدابي مرورا بالابراهيمي وصولا إلى السويدي ستيفان دى ميستورا الذي لم يسمع عنه أحد حتى الآن من السوريين المنكوبين، وبين هذا وذاك يخرج علينا بعض السوريين ليدلوا بدولهم في بازار الأفكار وكأن الدم السوري أصبح مادة للتجريب والتدرب، وهنا لابد من الوقوف عند مبادرات الشيخ معاذ الخطيب المتعددة والتي يعلن عنها كل حين كما يعلن عن فيلم الموسم في شركة انتاج فنية، وآخر هذه المبادرات ما طرحه في رسالته المصورة أخيراً والتي أعطى من خلالها درسا في التربية الوطنية للسوريين باعتبارهم طلبة نجيبين قد أصغوا قبل أيام لشرح مسهب في الوطنية لبشار الأسد، يجتمع الدرسان على فكرة المشاريع الخارجية وتآمرها على بلادنا وإن اختلفت المسميات، يقدم الشيخ معاذ أفكاره التفاوضية على طريقة من يشرح الماء بالماء، فبشار الأسد الذي فاته من قصره رؤية غوطة الشام المنكوبة مسكين لم تصل الى مسامعه صيحات الطفولة، فانبرى الشيخ بإرسال ما فات قاطن غرف الموت المعلن في دمشق، لم يظهر في التاريخ الإنساني نظام على هذا المستوى من الوضاعة والإجرام فيقابله الشيخ بنوايا مختار الحارة الذي يريد تجديد ولايته في المخترة على بضعة نفر يحتاجون ورقة فقر حال أو شهادة حسن سيرة وسلوك، لا شيء في تلك الرسالة يمكن الوقوف عنده وتأمله لا توصيفه لحسن نصرالله وحزبه بأنه انحرف عن الخط المقاوم عوضا عن وصفه بالمجرم الإرهابي ولا وصفه لبقية المعارضة كوجه آخر للنظام ويجب على الشعب أن يقوم بثورة جديدة عليهم وعلى الأسد.
ماهي سبل هذه الثورة ومنافذها، تركه الشيخ لرسائل قادمة منتظرا موفدا أسديا ليفاوضه تحت عنوان وضعه ذلك الجواهري ذات يوم بقوله "سلاما أيها الأسد سلمت ويسلم البلد"، لا أدري بالحقيقة من هم مستشارو الخطيب وناصحوه المجرّبون مثله على طريقة اغمض عينيك واضرب إما أن تصيب أو تخيب، ولكن الواضح أن الرجل يتشوق لخطب الموعظة التي تأتي في سوريا مغلفة وممنوع التلاعب بها، لا فكرة جديدة قدمها الخطيب فقد سبقه المناع والعظيم وما لف لفيفهما ورديفهم لؤي الحسين بأفكار صميدعية تتقاطع مع هذا الخطاب الباكي على كل شيء والمتألم من كل شيء والمعنون بكل شيء إلا الثورة التي أوصلت الشيخ وغيره الكثيرين إلى منافذ الاستثمار في مآتم الدمار، هنا تقفز إلى الذاكرة صور وأحاديث مثقفي اليسار في سبعينات وثمانينات القرن الماضي، عندما كانوا يتأبطون ثقافتهم ليناطحوا بها بعضهم مستبسلين في الشروحات والتوصيفات لقضم الوقت، وهكذا بعد ترهلهم وحيدين في ثقافتهم الباردة تتسلل إلى الساحة شخصيات جديدة هي أشبه بالسراب الذي نراه ولا نتلمسه وهنا يصبح لدينا مجموعة من هواة السياسة القاسم المشترك بينهم أفكار تصلح لسلسة دون كيشوت جديدة بنكهة سورية.
التعليقات (10)