يتناول المؤلف شخصية عبد القادر الجزائري، ويشير إلى وجود قصر عريق مهمل مهجور يعلو رابية تطل على أشجار الحور لتي غنى لها محمد عبد المطلب في أغنيته الشهيرة " بتاخذني الأيام " هذا القصر هو قصرعبد القادر الجزائري، الزعيم والمجاهد الكبير ، والاسم المشرق في التاريخ الوطني الجزائري الذي اختار دمشق عم 1855 منفى له، بعد أن أسره الفرنسيون في كانون الأول / ديسمبر 1847 ثم اقتادوه إلى أحد السجون في فرنسا بسبب دوره البارز في قيادة المقاومة ضد احتلالهم الجزائر، وكانت دمشق بالنسبة للأمير عبد القادر الجزائري وطنا بعد احتلال وطنه وزوال دولته التي أسسها.
يرى المؤلف أن قصر الأمير عبد القادر ليس مجرد تذكار مكاني... بل شاهد على مسيرة طويلة وحافلة طبعت سيرة هذا الزعيم العربي وأرخت لحضوره الاجتماعي والسياسي في المجتمع الدمشقي على مدار أكثر من ربع قرن قضاه في دمشق، ويشير إلى دور الأمير عبد القادر الجزائري فيما عرف بفتنة عام 1860 بين المسلمين والنصارى في دمشق، التي اندلعت في التاسع من تموز ( يوليو ) من العام المذكور، وهوجمت فيهاالمنطقة المسيحية في مدينة دمشق، كما هوجمت القنصليات الفرنسية والروسية والنمساوية والبلجيكية والأميركية، وكذلك مباني البعثات التبشيرية البروتستانية والكاثوليكية قرب حي "باب توما" المسيحي في دمشق القديمة، استطاع الأمير عبد القادر، بفضل علاقته مع القنصليات الاجنبية ومع أعيان دمشق ومع طبقة رجال الدين في آن معا،أن يحقن الدماء، فأنقذ (أكثر من خمسة عشر ألفا من النصارى) بعث بهم إلى منازله التي غصت بهم، وأخذ مفاتيح قلعة دمشق، ووضع بها كافة نصارى دمشق، وأشرف على تقديم الطعام والشراب لهم على حسابه الخاص لمدة خمسة عشر يوما، وكان لذلك دور كبير في إطفاء نار الفتنة، في ظل عجز القوات شبه العسكرية العثمانية المتمركزة في المدينة عن إيقاف أعمال الشغب أو حماية المعتدى عليهم.
ويتحدث المؤلف عن شخصية يوسف العظمة مشيرا إلى تأليف فيلم وثائقي عن هذه الشخصية ومعاناته في جمع المعلومات الكافية لعمل مثل هذا الفيلم، إذ كان يطمح إلى أن يكون الفيلم الوثائقي الذي اسمه ( يوسف العظمة سيرة المجد والكبرياء ) مفتاحا للدخول في عوالم هذا الشخص .. للتعرف على سيرته وإين ولد وكيف عاش ومن يكون قبل أن يذهب في رحلته الاستشهادية نحو ميسلون، وكان ذلك أصعب ما واجهه، إذ ليس ثمة إلا القليل من الذين اهتموا بشخصية يوسف العظمة منهم خيرية قاسمية الاستاذة في جامعة دمشق صاحبة الكتاب الأهم (الحكومة العربية في دمشق بين عامي 1918-1920) والمختصة في دراسة هذه المرحلة.
ويتناول المؤلف شخصية فارس الخوري وتفنيده للحجة الفرنسية في انتداب سورية لحماية المسيحيين، عبر حادثة دخوله إلى الجامع الأموي أثناء صلاة الجمعة واستئذانه بعد نهاية الخطبة والصلاة من الإمام وصعوده إلى المنبر وخطبته بالمصلين التي قال فيها "إذا جاءت فرنسا للدفاع عن مسيحيي سوريا والشرق فنحن لسنا بحاجة لحمايتها لأننا في وطننا أعزاء، وإذا تحججت بحمايتنا من المسلمين فإنني كمسيحي اشهد أن لا إله إلا إلله وأشهد أن محمدا رسول الله"، فحمله المصلون وخرجوا به إلى أزقة دمشق، التي صنعت منه زعيما خالدا في التاريخ السوري .. ليس بسبب سيرته الوطنية المشهودة وحسب، بل لأنها كانت تقدم أمثولة للتعايش.
وكانت دمشق مرآة لشعر نزار قباني، وكان شعره معمارا دمشقيا، بكل زخرفه وتفاصيله والقه وخضرته وعطره وعراقته، وهو اليوم صورة من صور الحضور الخالد في ذاكرة المدينة في تراثها الأدبي والاجتماعي والتاريخي أيضا، يقول نزار عن دمشق:
" هذي دمشق وهذي الكأس والراح
إني أحب وبعض الحب ذباح
أنا العشق لو شرحتم جسدي
لسال منه عناقيد وتفاح "
ويتحدث عن سامي الجندي الذي يقول عن دمشق : "ما كنت أعرف أن دمشق تتأنق هكذا عبر القرون بالمئذنة والمؤذن والمحراب والإمام والمنبر والخطيب ، وصحن الجامع وآلاف المصلين يركعون معا ويسجدون، يبتهلون ويدعون معا، لا يتفرقون إلا حين ينصرفون، ثم يلتقون في الأسواق القريبة، كل على باب دكانه (يسترزق) ثم صباح آخر شبيه بذاك كأنهما واحد لولا اختلاف الحر والقر، وجوه أمائرها بسملة وحوقلة كإنما اختلطتا بالنسيج والورق ".
ويكتب عن المسجد الأموي والبقعة التي يشغلها باعتباره البوتقة الدمشقية التي صهرت فيها طقوس العبادات وصلوات الأديان وهواجس الحضارات "وكل حجر عرفت ألف صلاة كنعانية وآرامية وآشورية وكلدانية ويونانية .. فرومية ثم مسيحية فمسلمة، لكأنك حين تصلي فيه تمر بكل طقوس التاريخ وأعياده وجنائزه، كأنك تشم بعضا من دم يوحنا المعمدان فتشيع الشهادة وحرارة اليقين في دعائك".
يعود بنا المؤلف إلى ذاكرة دمشقية حميمية من تآلف العمران والطبيعة والإنسان، وبهذا فإنه يغذي فينا الأمل بعودة الذكريات الجملية لكل من زار أو عرف دمشق الألق والجمال والدفء بعيدا عن استباحة أرضها وعرضها وناسها وطبيعتها وآثارها وجمالها.
التعليقات (0)