في مصر أم الدنيا خرج عبد الناصر يوماً ليرفع شعار الوحدة، تمترس ملايين حينها خلف تلك الفكرة وحولوا الفكرة إلى صورة، الصورة هنا ليست وطن بل صور عبد الناصر نفسه، رحل عبد الناصر وبقيت صوره في بعض البيوت فاسمترأ البعث الفكرة، حملها قسم العراق وقسم سوريا وتبعهما الملايين، لم يتوحد القسمان من بعث العروبة حول الفكرة بل كل منهما حوّل الفكرة إلى صورة، هنا صورة الأسد وهناك صورة صدام، وغابت الأوطان الصغيرة.
في ليبيا كان للصورة شكل آخر تجاوز البعثين وابتسامة عبد الناصر إلى مفهوم الدولة الحقيرة، فكتب القذافي أفكاره في كتيب حمل اسم " دولة الحقراء"، من يقرأ الكتيب يختصر باقي الحكاية ليس عن ليبيا وحسب، فالقذافي بفكره "الفذ" يشرح دولة الحقراء العالمية وبالنسبة له كل الفقراء حقراء، وكل المظلومين والمهدورة حقوقهم والمسروقة مواطنتهم حقراء، فأطعمهم في ليبيا كتابه الأخضر وودعهم بالصواريخ.
سرد مرير تاريخ هذه الدول إن كانت دولاً ولكنه سيقودنا إلى عمق جامعة العرب لتحديد الإطار والسؤال، أهنا دول تعيش في الزمان والمكان أم صور وأعلام وآلام؟.. قبل معركة ذي قار الشهيرة وقبل رسالة الأمة العظيمة كانت قبائل الأمة تشبه إلى حد بعيد تلك اللمة بأعلامها في جامعة العرب، تغزو بعضها وتطلق العنان للهجائين من الشعراء يولعون النخوات القبلية، وفي الطرف الآخر يد الفرس تمتد هنا وهناك وتعبث بالجغرافيا، أعادت ذي قار للنفوس شيئاً من التوازن، وتمر السنون بالمئات وتتغير أجيال وأجيال وتعود الحكاية في مطلع ألفية جديدة ونكتشف أننا عدنا لنقطة البداية إلى ما قبل ذي قار وإلى ما قبل الدولة بما يشبه حكم القبيلة.
في مسلسل (الزير سالم) أراد الراحل ممدوح عدوان أن يطلعنا على مجانية الدم الذي يسفك، لم يكترث أحد إلى ذلك بل تابعوا سير البطولات والهزائم وجدل الشخصيات، ومطابقتها لواقع أصبح أسطورة، تلقى بعدها الراحل ممدوح عدوان رسائل التهديد والشتائم من محبي الزير ورسائل الثناء من ورثة جساس.
في سوريا الأسد خيار بين الصورة أوحرق البلد، وسودان العصا ببشيره أو دون العصا، وعراق صدام أو المالكي ولبنان المقاوم أو لبنان المقامر ومصر عبد الناصر إلى مصر السيسي تغيب الدول ويعلن الأشخاص قوانينهم فيتبعهم حاملو الصور، لا شيء يختلف في دول أخرى تحت لواء هذه الجامعة وإن بدت هادئة بعض الشيء، هي تعشق الصورة تلتف حولها وتغيب المواطنة، بعض قوانين للزواج وأخرى للسيارات والمطارات لا بأس بوجودها، محطات تلفزة لا تأخذ منها حقاً ولا باطلاً لا بأس بها، فلكلور وطني بأعياد الاستقلال سيكون مثيراً كل عام بتوطيد المحبة بين المواطن والتراب، هنا التراب عبارة عن خلطة سحرية بين (ألف ليلة وليلة) و(كليلة ودمنة)، حكايات رمزية تساهم بتمرير الزمن وحكايات موعظة لهضم ثقل ما يتجرعه المواطن من ألم، تتوغل يد كسرى نسخة الألفية الجديدة في الدم العربي فيخرج البغدادي من حكايا ألف ليلة وليلة ليعلن خلافته في الوهم، أمة فيها كل حين شهريار يلزمها شعب كشهرزاد لا يعرف قيمة المواطنة، فإن خانته الذاكرة نحرمه نعمة الصباح، هي ثورة الشام التي استدعيت لها كل أنواع الخرافة لمحاربتها، استحضروا لها على مدى أربعين شهرا كل أنواع المحن لكنها صمدت كمن يتقن نسج الأساطير فأعادت الحكاية لنقطة البداية: إعادة الكرامة، فمن ذي قار التي تبنت الهوية إلى ثورة السوريين التي تبنت الكرامة كثيرة هي أساطير البطولة وكثيرة أيضاً مواقع السبات أو الهزائم، لكن عصر السرعة والمعلومة ينبئنا بعكس ما تتحف شهرزاد شهريارية القصور، فسباتهم أو صمتهم هو نهاية استمتاعهم بلذة الحكاية وجدول الإثارة، فدماء السوريين أثقل من أن تهضمها أمعاؤهم، وقراءة التاريخ لا تحتاج معجماً بل تحتاج ذاكرة، ويد ملالي كسرى يعلم السوريون جيداً أن من أطلقها للعبث هو ذاته من أسس لجامعة العرب رمزية البقاء لكن في قصور من كرتون خاوية إلا من بضعة "تأتأة"، وهنا يفرض السؤال نفسه: متى يقرر سادة هذه الأمة أن يصنعوا حكاية جديدة يقرؤها أحفادنا بثقة الانتماء والمواطنة؟
التعليقات (1)