لا يمكن لعقل بشري أن يتصور أنه سيرى في القرن الحادي والعشرين، ولا في القرن الحادي عشر ولا في عصر الظلمات، صورة أكثر إيذاء وانحطاطاً من هذه.
أب يطلب من ابنه أن يضرب طفلا سورياً بالعصا... يدربه... يعلمه: (ايه اضربه... يلا يا عباس ما تخاف) يحاول الطفل أن يقاوم فتأتيه الأوامر: (نزل ايديك... حط ايديك ورا ضهرك) يضرب (عباس) الوحش... ويتحلى بالشجاعة التي يطلبها منه والده أو من يحدثه من خلف الكاميرا... ثم يطلب منه أن يضربه بالعصا على رأسه... يتوسل الطفل السوري... ثم يطلب من عباس أن يصفعه بيديه "الجميلتين" على وجهه... فيفعل بإتقان!
لو كان هذا الطفل قطاً لهجم على عباس وأدماه بمخالبه... لو كان فأراً لزأر في وجهه... لو كان عصفورا لنفض جناحيه كي يثير بعض الغبار من حوله... لكن الطفل السوري لم يكن قطاً ولا فأرا ولا عصفورا... كان طفلاً مثله... كان إنساناً أو نواة إنسان... أو مشروع إنسان.. وكان خائفاً فقط!
لا تشرح الصورة لنا ما الذي أتى بالطفل السوري إلى هذا الغرفة العارية المغلقة... لا تقول لنا الصورة خوف الطفل الداخلي وبكاؤه الأشد من تهدج صوته... لا تقول لنا إن كان يعمل خادماً في هذا البيت، أو كان سجيناً، أو حتى مختطفاً أو كان مغلوبا على أمره أكثر مما تشرحه ظروف التصوير...
لا تقول لنا الصورة بعد أن تنشر، شيئاً عما يمكن أن تشعر به أمه أو أبوه أو أخوه لو شاهدوه في هذه الوضعية؟! عن الألم... عن الشعور بالقهر والمهانة... بل لا تقول لنا الصورة عن شعور أي سوري يرى هذا الطفل في هذا المنحدر الأخلاقي والإنساني لعباس وأبيه وطائفته ولبنانه...
فيا لعار لبنان كله...
يا لعار (لبنان الكرامة والشعب العنيد) إن صمتَ لبنان عن هذه الجريمة ولم يعلن براءته مجتمعاً وطوائف ونخباً ورعاعاً منها!
يا لعار العرب والإنسانية والتاريخ... إن مرت هذه الصورة هكذا... وإن كبر (عباس) على هذه الأخلاق... وهذا النمط الوضيع والمنحط من (الشجاعة)؟! وإن أفلت والد عباس، أو من كان يأمره أيا من كان... من العقاب والتشهير والسجن!!!
حتى شبيحة الأسد، لم يقدموا لنا صوراً عن إشراك أطفالهم في جريمة كهذه... بل ربما أخفوا صور قتلهم للأطفال عن أطفالهم، لأنهم مع كل سفالتهم وإجرامهم، يدركون أن مثل هذه الجرائم ليست لعب أطفال... ولا رياضات يمكن أن يتربى عليها أطفالهم... فثمة وسائل أكثر رقياً لجعلهم مجرمين أشداء إن أرادوا!
لكن الثقافة الاجتماعية اللبنانية استطاعت أن تنافس أولئك... وقدمت لنا صوراً، ستظل سبقاً إجرامياً في تاريخ لبنان كله. استطاع (النمط اللبناني الفريد) أن ينحط إلى درك أسفل مما يمكن أن يتخيله أي إنسان في هذا القرن. استطاع أن يسجل اختراعاً جديداً في سجل العار الإنساني، تؤرخ فيه الأخلاق ما قبل وما بعد!
لن أقول شلت يمينك يا عباس... بل شل قلبك الذي شوهته عائلتك كي يفجع إنسانيتنا!
شل قلب أبيك الوضيع... شل عقله الفعن... شل هذا النمط اللبناني الذي أنتج فظاعة كهذه. شل هذا الزمن الذي أوصل الطفل السوري إلى أن يصبح دريئة يتدرب بها عباس اللبناني... ولا يخجل من يأمرونه بهذا ومن يفعلون هذا من أن يصوروا... ولا يخجلون من أن يشاهدوا الصور أو ينشروها أو يسربوها!
لمثل هذه الصور وأكثر من أي جريمة مضت.. يصح قول الشاعر: (لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى حتى يراق على جوانبه الدم) لكنه شرف الإنسانية كلها... لا شرف فرد أو مجموعة أو طائفة وحسب!
التعليقات (37)