فيلم (شباب اليرموك): المخيم الفلسطيني على فوهة بركان خامد!

فيلم (شباب اليرموك): المخيم الفلسطيني على فوهة بركان خامد!
من خصائص الفيلم التسجيلي أن المخرج لا يشركك بأفكاره بشكل مسبق، ثمة واقع يفرض نفسه على هذه الأفكار ويدعو لإعادة تقطيعها وتركيبها من باب تخليصها من المكونات العادية التي تمنع نموها «لولبياً» إن جاز التعبير حتى تقدم صورة واقعية لواقع لا يستنفذ هذه المكونات. تبدو هذه الأمور صعبة ومعقدة حين تدعو للكتابة إن كان المرء مطلع على شخصيات الفيلم والحاضن المكاني الذي يجمع كل العناصر التي تُصنع منها مكونات يفترض أنها تتجاوز هنا كل ما هو عادي، حتى لا تستغرقها الرتابة في الإيقاع، وتنحصر في أنساق قد لا تتجاوز التتابع الصوري الذي يقدمه الفيلم حين ينتهي المخرج من إعداد آخر لقطة له فيه.

في فيلم «شباب اليرموك» (2014) للمخرج الفرنسي أكسل سلفاتوري – سينز، ثمة ما يعيق تطوير هذه الفكرة، باعتبار أن الكتابة عنها قد تعني ورطة ما. فالفيلم صوّر على مراحل زمنية متقطعة، قبل المآل التراجيدي الذي وصل إليه المخيم الفلسطيني القريب من دمشق، والأكبر من بين التجمعات الفلسطينية في المنافي والشتات، بعد خضوعه لتجاذبات الأطراف المتصارعة في سورية منذ أكثر من ثلاث سنوات، وسقوطه بأيدي مسلحي المعارضة السورية باعتباره «ممراً» للجهاد في الطريق إلى إسقاط النظام السوري. ربما – بحسب ما شاهدنا – لم يكن ســـلفاتوري على دراية بما ستؤول إليه الأمور، وهذا أمر مؤكد، فما نعرفه شخصياً، أنه تربطه صداقات بشخصيات فيلمه، وهم من شباب وصبايا المخيم الذين عملوا في وقت ســابق في تجمع ثقافي فلـــسطيني يحمل اسم «جفرا»، وكانت لديهم أحلامهم الفنية والثـــقافية والإنـــسانية قبل أن «تضيق» بهم الأرض في بقعة جغرافية متحصلة، تقول عنها تسنيم، إحدى الشخصيات في الفيلم، إنها منفى قبيح، ونحن لا نعمل شيئاً سوى أن نجــمّله، وكأننا سنقضي العمر كله نعيش ونهرم فيه.

اختصار الحكاية

تكاد هذه الصبية الموهوبة في الوقوف أمام الكاميرا، رفقة زميلها الموهوب الآخر سامر سلامة في حوار متعمد لهما على سطح بيت يطل على آلاف الصحون اللاقطة، والعلّيات التي يطير منها الحمام، أن يختصرا حكاية مخيم اليرموك. هكذا من دون مقدمات أو مسوغات يدور الحوار عن ذلك «الآخر» الذي يقف إلى يمين الصورة، الشكّاك بنوايا هذين الشابين اللذين تتربص بهما كاميرا «المخرج الأجنبي» على السطح. أي أن ليس ثمة شيء يدور في الخفاء هذه المرة، وكأنه ينوي التحرر من سقطات ألزمته بالسكوت طويلاً.

المخيم الذي يبدو في الفيلم بقعة جغرافية خامدة على فوهة بركان، هي كل ما يمكن الشعور به وتسقّطه من هذا الحوار الرشيق الذي ميّز ظهورهما – سينمائياً –، وبخاصة أن الإطلالة من الأعلى على شخص يقوم بتهديم جدار بمطرقة، تنقل هذا الشعور الثقيل الذي يخيم على أجواء الفيلم، بأن ثمة شباباً وشابات في مقتبل العمر يبحثون بشكل جماعي عن وسائل للتخلص من حياة التهميش والإقصاء التي يعيشونها هنا في «ملاحق» من الإسمنت البشع «المتزمت» تتجاور في ما بينها لتسهم في تعميق هذا الشعور بضآلة كل واحد فيهم، حين ينزع إلى خلاص فردي متمثل بالسفر.

المخيم لم يعد هو ذلك المخيم الذي جمع صخب الفصائل الفلسطينية مطلع سبعينات القرن الماضي، ضربته جملة من التحولات الاجتماعية العاصفة بعد اجتياح عام 1982 للبنان، وخروج قوات منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت. ليس بوسع مخرج «أجنبي» إدراك عمق هذه التحولات بالتأكيد، وتبيان حجم التغيرات الهائلة التي أصابت هذا المخيم مع دخول «المال الريعي» إليه، وتحويله إلى مقاطع تجارية بحتة، بحيث أن أهل المخيم من الفلسطينيين تحولوا فيه إلى أقلية، وبدأت تنفرط فيه صيغة المخيم المعهود، مع هبّة عقارية قبيحة شوهت الكثير من معالمه. فمعظم هذه «القلاع» الإسمنتية نشأت على أنقاض بساتين الزيتون التي كانت تحيط به، وهذه قد تتطلب منه على أية حال دراسات وأبحاث ليس بوارد القيام بها، ولكن كان ممكناً التأكيد على هذه الفكرة.

فمعظم «شباب اليرموك» أبناء لكوادر في التنظيمات الفلسطينية، وقد ظهر بعضهم في الفيلم أصلاً، وهذه معلومات شخصية، بحكم المعرفة بكل الشخصيات التي ظهرت أمام عدسة العين المدربة واللاقطة لأكسل سلفاتوري، وما قدمه في الفيلم يتعدى هذا الشعور المحبط الثقيل بماهية ذلك الشجن الكامن في أعماق كل واحد من هذه الشخصيات مع إدراك عاطفي لكل المكونات التي نشأت من خلالها وتربت عليها، وقد استقر المقام بها اليوم في أمكنة مختلفة، وهذا ما يمكن القول عنه بمشاركة المخرج أفكاره من بعيد طالما أن ثمة أفكاراً مسبقة تتكون مع ظهور كل واحد من هذه الشخصيات، وذلك بحكم المعرفة والاطلاع على مصائرها من دون أن يخبرنا الفيلم بذلك إطلاقاً، وباستثناء علاء السعدي الذي عرف الاستـــقرار في تشيلي القريبة من الزلازل «التي لا تشبه الزلزال الذي سيضرب مخيم اليرموك في وقت لاحق»، فإننا لن نعرف المصائر الأخرى، ولا يجوز هنا بالطبع إسقاط معلومات عن مآلات لم نكن على بينة فيها في الفيلم.

ملامسة إنسانية

فيلم «شباب اليرموك» لا يقارب المأساة الحاضرة لهذا المخيم. لا يدعي ذلك إطلاقاً. قدّم ملامسة إنسانية لمصائر شابات وشباب في أعمار متقاربة يبحثون من خلال مضائق الحياة عن متنفس لإكمال العيش، بعيداً عن «هوس» الفصائل الفلسطينية بماض ثقيل من التراكيب الإنشائية التي لم يعد لها وجود في هذه «الهبة» البصرية لقلاع من الإسمنت والمتلصصين والوشاة الذين يخافون من الكاميرات، وكأنها تثقل على ماض لا ينوي التبدل، لأن أصحابه لا يجاهرون بذلك، أو أنهم متعطلون بانتظار النزول في المحطة التالية: حين يكون المخيم قد أصبح ركاماً بفعل التطاحن الذي يدور على أرضه، وغادره من غادر، وفارق الحياة فيه من فارقها حزيناً وغير آسف عليها – ربما – كما هو حال الممثل حسان حسان، والجندي الإجباري في صفوف جيش التحرير الفلسطيني، الذي كان بعكس كل زملائه يحلم فقط بعمل مسرحي كل عام في هذا المخيم، ولا ينوي مغادرته حتى لو بقي عمله أسير هذه الحيطان الإسمنتية القبيحة. هذا لم يكن هجاء في عُرفه. فقد قضى حــسان (أبو الـــسكن)، وكأنه بذلك ينهي العمل المسرحي الوحيد الذي كان سينجزه لو بقي حــياً في المخيم الذي لن يعود موجوداً على الخريطة في الأفلام الأخرى. وقد يحسب من الآن فصــاعداً لســلفاتوري أن هناك شــريطاً صوّر قبل هذا «الزوال والامّحاء» لمخيم عاش تقلبات اقتصادية واجتماعية وسياسية على بقعة جغرافية «مشلولة»، كأنه وحده وبمكوناته المعهودة دولة عربية حديثة فاشلة، لا تستحق النعي أو الرثاء!

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات