كان هذا الكلام يطرح بوقاحة في كافة المجالس الخاصة والعامة داخل سوريا وفي كل زاوية يستطيع النظام التسلل إليها، ففقر المواطن السوري ليس بسبب السطو المنظم على ثرواته من قبل مافيا الحكم بل سببه نفط دول الخليج الذي لا يصلهم، وسوء الخدمات العامة ونهب مخصصاتها ليس بسبب فساده وإنما لوجود أصابع خفية لتلك الدول، أما عدم تحرير الأرض فهو ناتج عن أوامر أمريكية إسرائيلية أتت لمنظومة الملوك والأمراء كي يحاربوا أبطال التحرير في سوريا العروبة وما شابهها من تقدمييين.
إنها دراما سياسية أنتجت بأسلوب ممنهج للتشبيح على علاقة السوري بأخيه العربي وبث سموم التفرقة ليصبح العقل الباطني للفرد مهيأ لكل احتمال قد يستجد، فإن فشلت شركة إنتاج للفن على سبيل المثال في تسويق مسلسل ما سيصبح الخليج برمته عدوا يحارب نجومنا البواسل، وإن ترهل النقل الداخلي فإن سبب ذلك أن أميراً أو شيخاً في الخليج العربي اشترى لابنه سيارة حديثة من متاجر باريس أو لندن، وبهذا أصبح نظام البعث المهترئ يغطي فساده بتعرية فساد الآخرين، وكأن البذخ والمجون أو السيارات الفاخرة التي يركبها أبناء وزرائه ومسؤوليه وضباطه وكافة اللصوص غير مرئية للمواطن السوري.
لكن ماهي الثغرات الموجودة التي جعلت من تلك التركيبة الغريبة التي حكمت سوريا تستغلها على مدار سنوات طويلة في عملية ابتزاز فاقعة لدول الخليج العربي، وتعطيها القدرة في عملية التحكم بالمصطلحات وتجييرها لصالحها، وبالمقابل ماهي الضوابط الأخلاقية التي كانت تستند عليها الدول الخليجية في دعمها المالي والمعنوي عبر عقود لهكذا نظام وما أفرزه من سموم رغم معرفتها بنواياه الخبيثة نحوها، ولذلك يصبح السؤال الأهم بالنسبة لنا هو: هل كان كل ذلك يتم بالتراضي والتوافق لصناعة نجوم سياسة كما صنع المال الخليجي نجوم الفن المستحدثين في سوريا؟.
تثبت نتائج الأحداث التي عاشتها منطقتنا العربية عبر العقود الأخيرة أن دولا أطلقت على نفسها وصف تقدمية كانت هي الأكثر تخلفا والأقل إنتاجا وإبداعا، بينما استطاعت ما كانت تسميها تلك الأنظمة بدول الرجعية والتخلف أن تسخر جزءا من ثرواتها من أجل التقدم والبناء الحضاري والخدمي المتميز على صعيد المنطقة، كذلك ما تلقاه المواطن الخليجي من امتيازات لا يقارن بأي حال من الأحوال مع ما قدمته منظومة التقدم والاشتراكية والقومية وماشابه، هذا ليس دفاعاً عن الخليج ونظمه السياسية ولكن على الأقل فإن بيوت الكثير من السوريين بنيت نتيجة عملهم بهذا الخليج ومؤسساته وليس بمؤسسات دولتنا التقدمية ولا بشركاتها، وشيدت العديد من الفنادق لغاية جذب السياحة الخليجية ولم يتمتع المواطن السوري بفرصة السياحة في الخليج، بل رضي على نفسه أن يعمل تحت رحمة كفيل خليجي يستطيع ترحيله بأية لحظة ولأي سبب، وذلك هرباً من حالة الإجحاف الأقسى التي يعانيها من عمله داخل بلده سوريا حيث عمله بلا جدوى مالية تذكر وكرامته غير مصانة إن عمل أو لم يعمل، بينما هو في دول الخليج على الأقل يضمن مستقبل أولاده بقليل من المال.
لكن الحصاد الأهم الذي بدا أخيراً وبعد هذا الهجوم الهمجي للنظام "التقدمي" على مواطنيه ومدنهم جعل المواطن السوري الذي تربى على مقولة أن أشقاءه بالخليج "رجعيون" يأمل أن يقفوا معه وقفة الشقيق لتخليصه من ضيم نظامه التقدمي الذي أثبت بالصوت والصورة أنه نظام احتلال، وبذات الوقت من يصغي إلى المواطن السوري غير المسيس سيجد لديه حالة شك وحذر سببه اعتقاده أن تبادل المصالح في المنطقة الذي عمره بعمر هذا النظام هو الذي مرر الوقت ليبقى المواطن السوري الذي يذبح الآن يحتاج لكفيل حتى وهو بداخل أرضه، وهنا أصل الحكاية فالسياسة الخليجية رغم تعاطفها مع مأساتنا يبقى هنالك حلقة مفقودة والسبب يكمن في عدم وضوح القرار الحاسم والشجاع في العمل على إنهاء هذه المأساة السورية والحفاظ على ما تبقى من أمل في قلوب السوريين بأن لديهم أشقاء يمكن الركون إليهم بثقة.
فبين ما هو "تقدمي" وما هو "رجعي" مازال النظام يجد المنافذ ويكتسب الفرص الإضافية لكي يستثمر سياسياً ويفرغ تهمة الخيانة على الخليج العربي مجتمعاً والذي بدوره لم يستطع حتى اللحظة سحب خيوط اللعبة من يد هكذا نظام ومن خلفه، وعليه فإن المنظومة الخليجية يجب أن تخرج سياسياً بالتعاطي مع السوريين من عبء كلمة الكفيل الباحث عن مصالح آنية إلى رحب الشريك الباحث عن مصالح استراتيجية مع شعب لن يعود عن ثورته مهما طال الزمن وعظمت التضحيات.
التعليقات (2)