فيلم "أنا مع العروسة".. زفّة من الموت إلى الحياة

فيلم "أنا مع العروسة".. زفّة من الموت إلى الحياة
لطالما كانت لدى معظم الشباب السوري والفلسطيني رغبة السفر إلى الخارج أملاً في تحقيق مستقبل مغاير لذاك المتوقع في دول يحكمها القمع والاستبداد. وبعد أن انطلقت الثورة في سوريا، ولفترة من الفترات، ولنقل عنها العصر الذهبي، بات حلم السفر أقل أهمية مقارنة بالمستقبل المرجو على أرض الوطن ذاته؛ ذاك حلمٌ لم يكن لأحد أن يجرؤ على مجرد التفكير فيه من قبل! بيد أن حالة من الفوضى طرأت على ما كان عليه الأمل، فجرّت البلاد إلى مستنقع من الشرذمة التي يبدو أنه لا نهاية لها في المستقبل المنظور، فعادت فكرة السفر تراود معظم من هم تحت قبضة الخطر سواءٌ كان جسدياً أم نفسياً.

يحكي فيلم "أنا مع العروسة" رحلة أبو نوار "فلسطيني أردني" وزوجته منى "سوريّة" وعبد الله "فلسطيني سوري يدرس الأدب الإنكليزي في كلية الآداب بدمشق" وأبو منار "فلسطيني سوري" ومعه من أولاده الثلاثة ابنه منار ذو الاثني عشر عاماً والذي يحلم بأن يكون مغني راب مشهور في السويد. شاءت الأقدار أن يجتمع هؤلاء جميعاً في لامبيدوزا، وهي أكبر الجزر المعزولة وتتبع إدارياً لإيطاليا، وتُعتبر مكان التجمُّع الأبرز لمن يعافهم الموت من اللاجئين الذين يقصدون بلاد العالم الأول.

أقل ما يمكن قوله عن هذه الرحلة أنها مجنونة ومتهوّرة، بل هي أشبه بمن يقفز من سفينة تحترق في عرض البحر "من حلاوة الروح"؛ ابتداءً من سوريا التي يُغطّي الدم ترابها، وانتهاءً بالسويد والتي هي المَنفى الحُلم، ذاك الذي يُجيد مُعاملة المنفيين إذا ما قبلوا أن يضعوا حياتهم وحياة من يحبّون على المحك على طول الطريق إليه.

بدأت الفكرة تتبلور في خاطر المخرجين خالد سليمان الناصري وأنتونيو أوغوليارو في أواخر شهر أكتوبر 2013، بسؤال طرحه الناصري وأرّق أوغوليارو طيلة الليل: "أي شرطيّ على الحدود في أوروبا سيخطر في باله إيقاف موكب زفاف وتفتيش وثائق العريسين؟" ولم يستغرق هذا الهاجس أكثر من يومين لكي يصبح الحديث جاداً استعداداً ليأخذ طريقه إلى حيز التنفيذ. وخلال أسبوعين من العمل فقط، استحال اللاجئون عُرساناً بذقون حليقة وحُللٍ جديدة، وتجهّزت سيارات الزفاف بكامل زينتها، ورُسِمت خارطة الطريق بحيث تفضي إلى جنة البسطاء، أما العروس، تسنيم، فقد جاءت من إسبانيا إلى إيطاليا سرعان ما استطاعت لتحمل الرحلة والراحلين إلى محطتهم. ينطلق موكب العروس القادم من لامبيدوزا إلى ميلانو الإيطاليتين، ومنها إلى مرسيليا فنانسي ثم ميتز في فرنسا، وبعدها إلى لوكسمبورغ، ثم بخم "ألمانيا"، الدانمرك، وانتهاءً باستوكهولم عاصمة السويد والمحطة الأخيرة للقافلة. أجل، عملية تهريب كاملة قد تُعرّض المخططين والمنفذين إلى مساءلة قانونية وعقوبات ربما تتراوح بين خمس سنوات إلى خمس عشرة سنة من السجن لمساعدتهم الفاريّن غير الشرعيين "بحسب التسمية الأوروبية"، إلا أنه في وسع هذه الرحلة الإنسانية بامتياز أن تُلهم هؤلاء الذين ما زالوا يؤمنون بأن "السماء للجميع " كما قالت تسنيم، ومنارة لمن لا يؤمن بتمييز البشر بين شرعيين وغير شرعيين بحسب مسقط رأسهم.

لقد أعلنت 17 دولة أوروبية استعدادها لاستقبال اللاجئين السوريين والفلسطينيين القادمين من سوريا، بيد أن أولى خطوات هذه المكرمة أن أغلقت تلك الدول جميع منافذها الرسمية في وجوه من ينشُدُها، لتتركهم عرضة لأيادي المُهرّبين وتجار البشر. "هل من الإنسانية أو المنطق أن يُقبل الفرد على دفع مبلغ ألف دولار ثمناً لموته؟!"، يقول أبو نوار.

يعج العمل السينمائي، غير المموّل، بحوارات تُلخّص الحياة والموت، والذكريات والأمل المرجو من البلاد الغريبة. إنها رحلة يحاصرها حرس حدود دولٍ تتشدّق بالإنسانية. ناهيك أن أصدقاء وأحبة وأهلاً لم يكملوا الدرب لمجرد أن البحر قد ارتأى أن يظلوا فيه، ولم يُحرّك خفر السواحل ساكناً أمام مشهد ابتلاعهم، وأغلق السياسيون أعينهم عن ذاك الجرم المشهود.

خلال الرحلة، وبينما كان الناصري مشغولاً بمن معه وغير آبه إلا بتحقيق حلمهم، ورده اتصال أثار الدمع في عينيه، ذلك أنه نال الجنسية الإيطالية بعد خمس سنوات من الانتظار. تأملتُ تعابير وجهه، لا أدري كم سنة ازداد عمره في تلك اللحظة. صمت الفلسطيني الأصيل لثوانٍ، أشاح بنظره إلى البعيد، وربما شاهد الناصرة، ثم قال والغصة تغالب صوته: "أنا أول مرة بيكون عندي جنسية يا جماعة".

الرحلة طويلة وتكادُ لا تنتهي، والطريق بذاته حياةٌ مُستقلّة!

"أنا مع العروسة"؛ بيانات الهويّة:

فيلم تسجيلي يقع في ساعة ونصف.

فكرة وسيناريو وإخراج: أنتونيو أوغوليارو وهو محرّر أفلام (مونيتر) ومخرج إيطالي. بدأ حياته المهنية في العمل في حقل "الفيديو-آرت" مع "Studio Azzurro". ويعمل اليوم لقنوات تلفزيونية عديدة (سكاي، ديسكفري). كما أنجز أعمال المونتاج للعديد من الأفلام كفيلم "حياة مسروقة" لـ آنا ماريا ﮔالّونِه (مهرجان لوكارنو 2007)، وفيلم "ميكل آنجلو القلب والحجر (فيلم وثائقي روائي docufiction من إنتاج سكاي مع الممثل راتغر هاور والمخرج والممثل الإيطالي الشهير جان كارلو جانّيني).

وأخرج العديد من الأفلام القصيرة نذكُر منها: Fight Specific Isola، و PickuP، و T.V.T.B.، و due!، و Ultime Notizie

خالد سليمان الناصري: شاعر وصحفي فلسطيني من مواليد دمشق 1979 ومقيم في ميلانو منذ 2009. صدر له كتاب "صدقت كل شيء" عام 2009. أسّس جمعية المتوسط لتنمية القراءة والتبادل الثقافي ويعمل كمدير لدار نون الإماراتية للنشر.

غابريله دل غرانده: كاتب وصحفي إيطالي مستقل مقيم في ميلانو. أسّس في عام 2006 مرصد ضحايا الحدود "فورترس يوروب"، ينشر في التايم والمونيتور وفوكاتيف وتاز وراي وار اس اي وراديو 3، وصدر له من دار نشر إنفينيتو "مامادو سيذهب للموت" و"البحر في الوسط".

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات