أرثي رحيلي، إذ أرثي رحيل مدينتي، و أتذكر الخائن الذي ،قال يوما على شاشة التلفاز ،لن نركع إلا لله ،و أبكي .. أبكي، و أسأل عن الجنود والأولياء والأشيقاء، الذين تعهدوا ،بحماية حلمي، ثم رحلوا في منتصف البلاء، و أخذوا معهم خبزنا وملحنا، و جروا خلفهم أذيال الرجاء، حيث الريف هناك، جلس القادة والكلاب لعامين، و أنا أنتظر خارج الحصار ،و أخوتي من داخله في انتظار، و الانتظار هو الحصار، فليس الجوع أن تفقد الطعام ،لكنه صعوبة الاختيار، بين أن تحيا أو أن تموت رخيصا، و أنت تفكر أنك تموت عزيزا، و ليست العزة بالموت ،ما دام للحياة معنى، و فائدة وغاية و انتصار، ما دام للبقاء أسرار.
اقرأ رسائل هولاكو إلى قطز، و أرى التتار العائدين بأقنعتهم التي صنعوها، وما خبأت وجوههم طوال أربعين، وسكاكينهم التي شحذوها، لحماية قاتلي وقتلي و إخوتي بعد حين، باسم الله و أقرباء النبي، أموت أنا و إخوتي، وتمنح مدينتي لسارق قوتي و قاتل فرحتي ،وتمنح لأيار شهوته لدم الشهيد ،قبل أيام من العيد، الذي خلد الموتى دهورا، و عاد لتخليدهم من جديد، أتابع عبر وسائل الموت ،ضياع مدينتي ،و أقرأ من باب الصبر الجميل، عن هدنة فرضت على إخوتي ،من المحاصِرِ و الموؤازر ،و العدو والصديق الذي شبب تشتتهم وتشتتي ،إخرجوا ولن تصابوا بسوء، و أي سوء بعد عامين من الحرب ،ضاعت فيهما الأرض و ضاعت معها لغتي وبهجتي ،وهبت رياح الموت ،وانطفأت نار الثورة في المدينة التي أجتت نار الثورة ،وعادت الدماء من الأثواب التي ضجرتها نادمة ،على موت كل الأحبة ،وارتفع الصراخ ،فليحيا السلام و لتموت قصيدتي ،و تحرق في حمص ساحات الحرية.
فوق رصيف الغريب ،أتذكر الشهيد المسجى، فوق رصيف حارتي، نحيط به لنمتص لهيب دماه و نكمل ما بدأناه ،و ننشد أن الأرض لا تموت مثل اللغة، و لغتنا احرف اسم الشهيد ،فكيف للتراب أن يقضي ،وقد شرب من دمه المختلط.
يسألني صديقي الخارج من الحصار ،عن معنى المنفى ،فأجيبه بأنه حصار آخر ،تحرقك ذكرياته وتقتلك مراكبه التي حجزت لك تذكرت رحيل دون عودة، هو اختصار الحياة بصورة طبعت في الذاكرة، أوعلى جهاز إلكتروني بأفضل الأحوال، المنفى يا صديقي هو حجر الزاوية بين ،الموت انتظارا والحياة انتظار ،هو شرب القهوة الحلوة بكامل مرارها صباحا ،وأنت تتأمل من نافذتك و تخدع نفسك بأنها أرضك ،المنفى هو أن تعصر نفسك لتضحك ،فتنفر من عينك دمعة صادقة ،أن ترى كل زهور الدنيا بلا رائحة تحكي قصتها، و تشعر أن البيوت جميعها بلا أسقف ،هو أن تفتح نافذتك لتنادي البائع الغريب، فلا يفهم لهجتك ويشتم الشعوب الأجنبية ويرحل ،المنفى أن تغرق في حلم الوطن بأشد الساعات صحوا، و أن تكتب قصيدة في فتاة لا تحبها لكنها تشعرك أنك في بلدك، و بين يدي حبيبتك، المنفى هز طير غريب لا يعجبك صوته رغم جماله لأن أذنك تعودت على زقزقات عصافير وطنك، المنفى هو النظر إلى السماء أملا في أن يمر سرب حمام ،مهاجر من بلادك لتسلم عليه و تعانق الهواء.
يقول صديقي ،سيخرج الهواء غدا من حمص ،وستدخل الكوليرا ،بدبباتها و مدرعاتها و مدافعها العفنة ،سيدخلوا ليدنسوا أم الثورة ،و أم الشهداء و أم الغد و الأمس .. حمص
ضائع الخطى .. بعد عامين من الغياب ،أحكي قصتي و قصة مدينة التي جعلها الله قربان الحرب ،و جعلها القاتلون كبش فداء ،مدينتي التي أضحكت الجميع يوما ،و رحلت فلم تجد نفعا في البكاء ،مدينتي التي ستعود يوما مهما طال مقام الشتاء.
التعليقات (1)