خاطبوا العالم أجمع كي يمهلهم لارتداء بدلة بابا نويل كي يوزعوا بقايا الأمل على الإنسانية، فإذا بالعالم يهديهم الدابي ومرافقاً يبحث عن زواج متعة تحت جنح الليل في بهو فندق، سقط القلق من جفني بان كي مون بين كنيسة أم الزنار وجامع خالد بن الوليد ليتحول إلى بقايا تبغ مجبول بقيح منظومة أممية تقرحت أعضاؤها، وذاته مسجد خالد بن الوليد كانت، عندما تذكره، السيدة أم مازن تقول بلهجتها الحمصية الجميلة "سيدي خالد"، أم مازن والدة شهيد الخالدية التي لم تودعه تعلم جيدأ أن "سيدي خالد" أبى إلا أن يكون شاهداً على كبرياء حمص ووضاعة اللصوص.
في الثامن عشر من آذار 2011 أطلقت صرختها الأولى ضد الظلم والطغيان، كان حينها خالد بن الوليد حاضراً أيضاً، صمدت بيروت ثمانين يوما على قصف وحصار وكانت تحوي جيشاً سورياً مؤللا وفصائل مقاومة لاتحصى، لكنها سقطت كعاصمة تقاسمها النخاسون وإلى الآن لم تنهض، ستالينغراد دافعت عنها جيوش جرارة وانتهت بمئتي يوم، ستمائة وثمانية وثمانون يوماً بقيت حمص عاصمة ثورة لم تلن، هي مدينة بحجم وطن وأسطورة كأساطير سوريا، ابتدأ المحتل ينهشها قبل أربعين عاما ورويداً رويداً حاصر القلب ليقضمه، هي تشبه فلسطين بهجرة أبنائها وسرقة بيوتها، لكنها هنا عنصرية تنطق بلغة الضاد أو لغة القاف، لا طائفية يقول القاتل، لكن لا بأس من أن يغادر السّنة مدينتهم فلقد خلّدنا لهم ذكرى على مرمى حجر إنه سوق السّنة تباع فيه ذكرياتهم، لا ننكر الخبز والملح وطيب البيوت نحن، يضيف اللص، أكلنا كل ذلك وأكثر منذ عشرات السنين ولا ضير الآن من أكل التراب المتبقي بعد نخب الدم.
قد بات سيفي في مجال وشاحها.. ومدامعي تجري على خديها
فوحقّ نعليها وما وطئ الحصى.. شيء أعز علي من نعليها
هذا ما قاله ديك الجن الشاعر الحمصي بعدما قتل حبيبته "ورد" خطأ نتيجة سماعه الإشاعة عنها، نستعير من شاعرها ديك الجن تلك الأبيات لتصبح الحبيبة حمص، والذي اغتالها نحن، هذا إن عقدنا العزم على النواح حتى الموت كما ديك الجن، لكن حمص ليست "ورد" وأهلها ليسوا من يبكي على الأطلال.
سقطت حمص وسواها منذ أن تربع على ظهر ثورتنا لصوص من نوع آخر، تلمع وجوههم النكدة على محطات التلفزة ويتوالدون كالفطر بلا جذور أوأساس، شكلوا مجلسا وطنيا ثم ائتلافا وولدوا حكومة تشبه مرض البهاق في جلد أسمر، فاقعة كما لون كل من أطل في ساعات موتنا الكيمياوي يزبد ويرعد أمام الكاميرات، معارضة توالدت فيها الأحزاب والتيارات وجهابذة الفكر وتداعت على هذه الثورة كما يتداعى الذباب على لوح سكر، مجالس حارات وقرى ومناطق ومحافظات ومهجر ومنفى ومخيمات وأحلام وأيتام، تبارزوا في لعبة شد الحبل فسقط عن خاصرتهم ما ستر عورات رؤوسهم ومازالوا يحللون ويفلسفون ويتذرعون بخذلان الأمم.
في حمص لا مجال للتخمين من سقط ومن لم يسقط، بل بعضٌ من حصان طروادة تسلل إليها وبعضٌ من حذاء أهلها سيصحح الصورة من جديد، فباريس التي سقطت غادرها الألمان وبقيت باريس، لا تسقط العواصم الأصيلة بل يسقط الطغيان، أنا السوري هنا في الشتات أرى المهندس والطبيب والصيدلاني والكاتب والشاعر والمحامي والمدرس يقطفون الليمون والزيتون ويقدمون الشاي في المطاعم وبعضهم "عتال"، لكنهم لم ينحنوا، رأيت على الشاشات أنصاف مثقفين وكتاب سلطة في زمن التسلق يتناوبون على تمزيق أحلام الشهداء ويتنقلون بين العواصم والمؤتمرات كقطعان خراف تعلّفت، رأيت نراجيل تخرج من خراطيمها رائحة العفن تتوزع في الشتات وتدعي النضال، ورأيت ثوارا قد أكلوا الأعشاب وحشوا بواريدهم برائحة الأمل.
ما بين فنادق المؤتمرات ونراجيل الكذب صمد الأسد ونظامه، وعلى إيقاع صمود الذين لم يفتوا بغير الوطن سيسقط الأسد ونظامه، من قال إن الثائر لا يعيد تشكيل الحياة على مقاس خطواته، في حمص يخبرنا "سيدي خالد" كما يناديه الحماصنة: (شهدتُ مائة زحف أو زُهاءَها، وما في جسدي موضع شبر إلا وفيه ضربةٌ أو طعنة أو رَمْية)، ابن الوليد لم تقتله الطعنات والسيوف، وفي حمص التي لم يبقَ فيها موضع شبر سالماً سيخرج سيف خالد من بين الركام، سأبشّر سادة الائتلاف أولاً وأولئك القابعين خلف صفحات التواصل ثانياً وكل من تمترس خلف الشاشات نادباً، أن السوريين مازالوا في ثورتهم وحمص عاصمتهم، وكأني بالحماصنة يصيحون غداً: من دخل جامع خالد بن الوليد فهو آمن، ومن رفع غصن الزيتون في ساحة الساعة.. آمن. آمن
التعليقات (1)