ربيع العرب وخريف الغرب (الفرصة الضائعة للمصالحة مع الغرب)

ربيع العرب وخريف الغرب (الفرصة الضائعة للمصالحة مع الغرب)
معظم الدول العربية التي اندلعت فيها حركات احتجاج ثورية قامت أنظمتها الحاكمة باتهام جهات خارجية بالوقوف وراء ما يحدث على أراضيها؛ وأصرت على تعرضها لمؤامرة كونية شرسة تستهدف وحدتها واستقلالها ونهجها الوطني السليم.. إلى ما هنالك من مفردات وعبارات جاهزة, أصبحت ممجوجة ومستهلكة منذ زمن بعيد, ولا يمكنها أن تخدع أحداً بعد الآن. وكأن هذه الأنظمة قد وصلت إلى سدة الحكم بطرق شرعية وعبر انتخابات حرة نظيفة, وليس عن طريق انقلابات عسكرية أو مسرحيات توريث عبثية. أو أنها قامت دائماً على خدمة شعوبها, ساعية وراء الحياة الحرة الكريمة العادلة والرفاهية المستدامة. أو أنها تدافع عن مصالحها في المحافل الدولية, وتقف ضد خصومها بكل قوة وثبات. أو أنها بريئة لا تتآمر على بعضها بعضاً خدمة لمصالح قطرية ضيقة أو لمصالح قوى إقليمية.

تناست هذه الأنظمة أن شعوبها تعاني من سطوتها وبطشها واستئثارها بالسلطة؛ ومن سوء إدارتها وفساد جميع أجهزتها ومؤسساتها ودوائرها الحكومية.. لقد تراكم الوجع والظلم, بحيث لم يعد الإنسان العربي قادراً على تحمل ما يحدث, ويرى نفسه فرداً بين قطيع بائس في مزارعها العامة والخاصة.. راح ينتابه شعور دائم بالغصة والألم ليس بسبب ضعفه الذاتي, وإنما بتكبيله وقمعه وتهميشه وإبعاده نهائياً عن دائرة القرار والتأثير.

جاءت اللحظة التاريخية التي لن تتكرر في المستقبل القريب, بعد أن تكونت كتلة حضارية من الشباب المتعلم المثقف المعطل عن العمل والإبداع والمشاركة بفعالية في حياة بلاده؛ ونزلت إلى الشارع مع فئات اجتماعية أخرى من الناس الغاضبين المستاءين, واندفعت تيارات جارفة عبر الشوارع لتسقط أنظمتها المطلقة.. انتصرت الثورة في كل من تونس ومصر مسقطة رأس النظام بسرعة كبيرة, لكن جسده الفاسد المتعفن بقي في مكانه؛ ولم تحقق أهدافها كاملة.

وأطاحت الثورة الليبية بالعقيد القذافي – عميد الزعماء العرب وملك ملوك إفريقية – بعد تلقيها دعماً عسكرياً لا محدوداً من قبل الغرب, حيث دخلت قوات الثورة المقاتلة طرابلس وسيطرت على «باب العزيزية» – مصدر الرعب والبلاء طوال عهود طويلة.. كذلك انتصرت المبادرة الخليجية في اليمن بعد عملية كر وفر ومراوغة طويلة من قبل علي عبد الله صالح الذي أصيب إصابة بالغة, وبقي متشبثاً بالحكم حتى آخر نفس!.. أما في سورية فمازال الأسد المجرم مصراً على قتال شعبه باسم المقاومة والممانعة والمؤامرة الخارجية, دون أن يقدم أي تنازل أو حل سياسي, ما أدى إلى دخول قوى طائفية وجهات متشددة المعركة, لتنزلق الثورة – في كثير من جوانبها – نحو أنفاق الحرب الأهلية المظلمة.

لقد غيرت هذه الثورات الأحكام السلبية المسبقة عن العرب لدى شعوب العالم أجمع؛ وقلبت الأفكار والمفاهيم القديمة عن الثورة ودور الأحزاب السياسية والنخب الثقافية فيها, وخلقت مناخاً جديداً, أثر – دون شك – على الوضع الدولي عموماً. لكن يتبادر إلى الذهن سؤال ملح: «هل تستطيع هذه الدول المتحررة حديثاً من الديكتاتوريات أن تحل مشاكلها بنفسها دون الحاجة إلى مساعدة الغرب؟»..

إذا لم تستطع إنجاز ثورتها وبرامجها السياسية والاقتصادية لوحدها, فإنها ستكون مجبرة على الاستعانة بدول أخرى!

لن يكون هناك – على الأغلب – مكاناً لروسيا والصين وإيران داخل دول الربيع العربي؛ لاسيَّما بعد أن وقفت إلى جانب أنظمتها المستبدة ودعمتها سياسياً ودبلوماسياً وعسكرياً.. لقد أحرق المتظاهرون أعلام تلك الدول وصور قادتها في أكثر من مكان – لاسيَّما في سورية – ليكون لهذا الفعل دلالة رمزية؛ ما شكل فرصة تاريخية نادرة أمام الغرب, الذي انتعش بالنصر الجزئي على القذافي, ليقوم بمصالحة حقيقية مع الشعوب العربية المتطلعة للحرية والكرامة والديمقراطية, والتي عانت ردحاً طويلاً من ظلم واضطهاد وتآمر القريب والبعيد..

ساد الاعتقاد – ولو لوقت قصير – بأنه لم يعد هناك شيء يخيف عرب الثورات المنتخبين عبر صناديق الاقتراع بعد الآن؛ مما يسمح لهم الابتعاد عن أدلجة الوطن وتسييسه والسيطرة على مرافقه الاقتصادية, كما فعلت أنظمتهم السابقة, ويحكموا العقل والمنطق, منطلقين من مصلحة شعوبهم فقط؛ لكن انقلاب السيسي على شرعية مرسي في مصر أحدث صدمة للجميع, وغيّر كثيراً من المعادلة الثورية في بلاد الربيع العربي, معيداً مصر إلى أحضان الدب الروسي الباردة؛ في حين شكل فوز بوتفليقة, وهو على كرسي العجزة, في بلد كان مرشحاً لدخول الربيع بقوة, صدمة أكبر من صدمة السيسي.. كذلك من المؤكد أن بشار الأسد, الذي دمر بلده وهجّر نصف شعبه, سيفوز بانتخاباته (النزيهة) المرتقبة!

إذا كان الغرب جاهزاً – فعلاً – لمساعدة العرب الجدد على بناء أنظمة حكم مدنية تعددية تتبنى اقتصاديات حديثة, فلابد له من القيام بخطة أشبه بخطة «مارشال» الأمريكية التي أعادت إعمار ألمانيا الغربية بعد تدميرها في الحرب العالمية الثانية؛ ولتكن بمبادرة ألمانيا الموحدة, لأن هذه الأخيرة لم تحتل بلاداً عربية, إلاَّ إذا ما استثنينا احتلالها أجزاءً من الشريط الساحلي الليبي مروراً حتى العلمين المصرية؛ ومن ثم استسلامها سريعاً تحت ضغط القوات الإنكليزية المرابطة هناك عام 1943.

يمكن لخطة مارشال جديدة تتناسب مع ظروف العرب, وغير مرتبطة بشراء منتجات أو بضائع بحد ذاتها من دول الغرب, أو بفرض شروط سياسية معينة تجاه التطبيع مع إسرائيل؛ أن تدعم اقتصاد دول الربيع العربي, وترفع مستوى معيشة سكانها على أساس توزيع عادل وصحيح للثروة الوطنية. لأن الناحية الأهم التي تثقل بكاهلها على روح شباب تلك البلاد تكمن في غياب آفاق الحصول على عمل جيد يضمن لهذه الفئة الأكثر تهميشاً مستوى أفضل من الحياة.. هذا الواقع المظلم يبدو أكثر وضوحاً وسط خريجي الجامعات الذين لا يجدون عملاً مناسباً لهم؛ لذلك يجب النظر إلى المُوَجه «الغرب – دول الربيع العربي» كمجال للعلاقات التجارية والاستثمارات الجيدة.

إذا لم تُبن هذه العلاقات في القريب العاجل على أساس صحيح, فإن موجات الهجرة الشبابية من سواحل البحر المتوسط الدافئة لن تتوقف باتجاه شواطئ الشمال الباردة, وستزداد وتائرها مع استمرار الصراع بين قوى الثورة الحقيقية وقوى الثورة المضادة من فلول الأنظمة السابقة والمستفيدين من وجودها. وستعود هذه الفئات الشبابية للبحث من جديد عن مكانها تحت شمس أوروبا السديمية, وليس في بلادها, باعتبارها أكثر جاذبية وتفاؤلية؛ لكنها ستخلق توتراً اجتماعياً في بلاد المهجر من جهة, وستفقد الدول العربية كفاءات علمية اختصاصية مثقفة من جهة ثانية, لذلك يجب أن تبقى في أوطانها كي تشكل طيفاً إيجابياً مستقبلياً للإنتلجنسيا المؤمنة إلى حد ما بقدرات بلادها ومستقبلها. لكن لا أحد يدرك حجم هذه الخسارة الهائلة بالنسبة لنا!

اعتمدت أوروبا, وما زالت تعتمد, سياسة غير واضحة تجاه جيرانها العرب على شواطئ البحر المتوسط, معتمدة على بنود «معاهدة برشلونة» (1995) إلى حد معين, التي أسست عملياً لهذه السياسة. وكذلك على فكرة «اتحاد من أجل المتوسط» الفرنسية (2008). لكن هذان المشروعان واجها صعوبات جمة, لأن أوروبا فكرت بمصالحها الخاصة فحسب, ولم تكن جاهزة للتراجع أو التنازل – ولو قليلاً – للآخر في المجال الاقتصادي!

نجاح الثورات في كل من تونس ومصر وليبيا واليمن, واحتمال نجاحها في بلدان عربية أخرى, يفتح مجال النقاش من جديد بين العرب والغرب, وذلك من أجل الوصول إلى رؤية توافقية جديدة تحدث تغييراً إيجابياً في المواقف يعيد صياغة المشروعين الأوربيين المذكورين آنفاً, بما يتناسب مع مصالح الأطراف على جانبي المتوسط.

الموقف الأوروبي المتذبذب تجاه ثورات العرب لم يكن كافياً تماماً, وغير ناجح مبدئياً.. إذا كانت أوروبا تسعى لإقامة علاقات تجارية نشطة وطويلة الأمد, فإن البلاد العربية تسعى لإقامة علاقات مستقرة معها؟ إذن لا بد من تغيير الأوضاع!

تنحصر المشكلة بأوروبا التي ما زالت تنتظر تبلور الأمور حتى النهاية؛ وهذا يتطلب وقتاً طويلاً. لذلك يجب إشراك تركيا, التي تطورت تطوراً مذهلاً في العقود الأخيرة للعدالة والتنمية, وأصبحت دولة إقليمية كبرى؛ وتعد شريكاً مهماً لأوروبا – الآن وفي المستقبل القريب – ريثما تظهر قوة اقتصادية وسياسية أخرى في المنطقة.

التحالف مع الغرب على أساس الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة سيساعدنا على الحد من خطر المشروعين الإسرائيلي والإيراني, أكثر المشاريع المتربصة بالمنطقة العربية, التي أصبحت أشبه بالمرأة الضعيفة, وليس بالرجل الضعيف – حسبما أطلق على دولة الخلافة العثمانية في أواخر عهدها – لكن مع ذلك يجب أن يبقى مشروع قيام الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس في أولويات حكومات ما بعد الثورة, والابتعاد عن المتاجرة بهذه القضية – كما فعلت حكوماتهم السابقة!

أدرك الشباب العربي الثائر أخيراً أن سبب تخلفهم وتأخرهم ليست أمريكا والغرب وإسرائيل, وإنما الأنظمة الديكتاتورية التي تحكمهم وتستأثر بمقدرات بلادهم, وتحد من طموحاتهم وإمكاناتهم؛ ويمكنهم مد أيديهم إلى الغرب للمساعدة.. أدرك أنه لا يقاتل عدواً خارجياً ولا حاكماً أجنبياً, بل حاكماً محلياً؛ حاكماً يقتله لأنه طالب بالتغيير؛ حاكماً استطاع تشتيته إلى زمر وجماعات وكنتونات وطوائف وقوميات في عصر متعطش للدم البشري؛ في عصر لا يرحم مستعد دائماً أن يلفظ بقسوة أي إنسان غير مستعد للقتال من أجل حريته وكرامته وإنصافه...

كان هناك فرصة كبيرة لدى هؤلاء الشباب من أجل النهوض والارتقاء بثوراتهم الربيعية, إلا أن دخول الطائفيين والقوميين والإسلاميين المتطرفين على الخط أفسد هذا الربيع وجعله شتاءاً بارداً طويلاً, تظلله من بعيد غيوم خريف الغرب الرمادية!

التعليقات (1)

    لا شك ان الأسد استفاد

    ·منذ 10 سنوات 6 أيام
    جرى للقذافي و علي عبد الله صالح و لمبارك فاتخذ الإحتياطات اللازمة بالرغم من إنكاره المُسبق لحدوث تأفف منه من قبل شعبه فقد استبق الأمور وحضّر لكل حركة حركة مقابلة فإن قالوا بالعزاء لا حول ولا قوة إلا بالله يقول للصحافة الأجنبية أرأيتم الإسلاميين ثم يخترق الجموع بمن أفرج عنهم من السجون الذي كل واحد منهم وقّع على واجبات ينبغي إنجازها لدى الإفراج عنه ليشوّهوا ويسوّدوا وجه تلك الفرقة أو هاتيك وهكذا ... إلى ان انقلب السحر على الساحر واكتشف هؤلاء أنهم بينما كانوا في السجن كان المستهدف أقاربهم و جيرانهم
1

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات