هل تتغير المعايير الإنسانية بتغير الوجوه؟

هل تتغير المعايير الإنسانية بتغير الوجوه؟
ربما أغلبنا يشعر بالمرارة عندما يتأمل المشهد العالمي برمته كيف خذل السوريين، ليس على صعيد الحكومات وحسب بل حتى على صعيد المنظمات والأحزاب أو الرأي العام الضاغط والذي رأيناه في أحداث سابقة يملأ شوارع وساحات المدن الكبرى محتجاً أو متضامناً مع مأساة بعض الشعوب، حتى وإن كان غير مؤثر في قرارات السياسيين ولكن كنا نتوقعه ولو من باب التضامن مع المنكوبين.

من المؤسف أن تصل الإنسانية إلى هذا المستوى في التعاطي مع ما يجري من انتهاك صارخ لكل المعايير الإنسانية على مر العصور، ومن المدهش بالمقابل أننا اعتبرنا وعبر سنوات أن الحضارة الإنسانية قد وصلت إلى مراحل متقدمة من الرقي، يستحيل معها غض النظر أو التغطية على جرائم ضد الإنسانية لنفاجأ جميعاً أننا اعتقدنا أفكاراً ساقتها لنا معايير مضللة، فالاستبداد على ما يبدو لا تعريف دقيق له حتى الساعة في برامج الدول الكبرى رغم كل الاجتهادات في تعريفه، والتي قد يكون المفكر السوري عبد الرحمن الكواكبي ابن حلب التي تغتالها البراميل المتفجرة، قد يكون قبل مئة عام ونيف قدم للفكر الإنساني صورة هي الأوضح في وصف الاستبداد، لكن ما نشأ في ظل انقسام النظام العالمي إلى معسكرين شرقي وغربي في العقود الخمس الأخيرة من القرن العشرين، والتي من خلاله أصبحت القوى العظمى تقدم رعايتها الفجة للمستبدين في بقية دول العالم الهشة، مازالت البشرية تدفع ثمنه إلى هذه السنوات من مطلع الألفية الجديدة، ولا شك أن بعض النظم السياسية في عالمنا العربي هي بقايا تلك الحقبة من التاريخ، ولهذا كانت ثورات الربيع العربي امتحاناً لنا جميعا ولاصطفافاتنا السياسية أو الإنسانية أو الأخلاقية, وبالتالي تعرية حقيقية لهذه النظم ومن قدم لها الولاء والدعم ومازال إن كان دولاً أو تنظيمات أو أفراد, ولم تختلط هذه الرؤية على من اتخذ موقفا صريحاً من الاستبداد (سواء المحلي أو الدولي) مهما كانت الفكرة التي أنشأ هذا الاستبداد هيكله عليها، قومية كانت أو يسارية أو دينية أو غيرها، بل ازداد يقينا أنه كان على صواب. لكن الصدمة القوية التي ربما تلقاها أغلبية السوريين ليس بشاعة رد النظام على هتافهم للحرية، بل انهيار ذلك الإرث الحضاري للأفكار الانسانية بمجمل القيم التي توهمناها عن الغرب الديموقراطي بالذات أو ما يسمى العالم الحر دفعة واحدة وبلا مقدمات ولا إنذارات بل بشكل فاقع ومرعب.

فالروس الذين أورثوا بعض الدول نظماً غاية في الإنحطاط القانوني والسياسي، قد ورثوا هم ذاتهم عن تلك الحقبة نظاما أشبه بالعصابة، ولذلك فإن ترك المأساة السورية بمباركة ذلك الغرب الحر رهينة لميزاجية هذه العصابة الروسية يضع أمامنا الكثير من التساؤلات عن طبيعة النظام العالمي الذي بدأ يتشكل مع نمو الثورة السورية إلى هذه الدرجة وتعمق المأساة الإنسانية للمدنيين إلى مستويات خارجة عن كل المقاييس الممكنة، وهذا الأمر بدأ يطرح الكثير من التساؤلات عن مستقبل البشرية بعد انتعاش عصر الحريات في الغرب ثم تراجع هذا العصر نتيجة الدور المظلم الذي يمارسه ساسة الغرب وحكوماته في هذه السنوات الأخيرة من تحطيم مباشر وغير مسؤول لمنظومة قيم الحرية تلك التي أغرت شعوب العالم يوما ما، بل وساهمت في انتصار الغرب بما سمي سابقاً الحرب الباردة وإنهاء منظومة حلف وارسو.

ليس حدثاً عاديا أن نشاهد هذه الرعاية الدولية الفجة لنظام الأسد وتكريمه بمؤتمر دولي يشاركونه فيه الطاولة بإدارة مبعوث دولي يقبض راتبه بالتوازي مع قبض الأسد على لوحة التحكم التي توزع البراميل على رؤوس الناس وسكنهم، بحيث تبدو تلك البراميل كخاتم رسمي يمهر هذه الحقبة التاريخية بالصوت والصورة على أنها محكومة من قبل ساسة وحكومات من أحط ما أنتجته البشرية عبر عصور.

هذه ليست اتهامات تلقى جزافاً على هذا النظام العالمي بسبب ألمنا على وطننا الذي يتشظى قطعة قطعة، بل هي أقل ما يمكن قوله عندما تعقد المؤتمرات ببهرجة وقحة وبالمقابل هناك من يحفر الركام بأظافره لانتشال ضحايا البراميل فيما يصور عبور عشرات المحاصرين الجوعى نحو بر الأمان على أنه انتصار لدول عظمى بتجاهل فظ لسبب حصارهم الذي زاد عن الستمائة يوم، فبدا إخراج العشرات من المدنيين من حمص القديمة على أنه مكرمة من النظام الذي عفا عن موتهم.

إن بعض المقارنات البسيطة لتسلسل الأحداث منذ بدء انعقاد الجلسات الأولى لمجلس الأمن الدولي حول سوريا مترافقاً ببضعة تصريحات وخطب رنانة لدبلوماسيي العالم ستشير بوضوح إلى أننا أمام سياسة دولية ليست عرجاء بل لاتملك القدرة على المشي بالأصل وهذا إن دل على شيء فهو يدل على أن الثورة السورية أظهرت حاجة المنظومة الدولية الماسة لثورة جديدة في الثقافة والتربية والفن والسياسة والقانون، فالإستبداد الذي أصبح تعريفه مطاطاً ازدادت أدواته الحالية أداة هامة وهي الإعلام، وعندما يطلق النار على الضحية فإن الإعلام المتاح للقتلة هو بمثابة نار جديدة تقتل عواطف وشجون الآلاف، وعندما يشاهد ذوو الضحايا أن قاتلي أولادهم يقفون متأنقين في قلب القارة الأوربية ويضحكون للكاميرات ويلقبون بالسادة فمن حقهم أن يتساءلوا عن مدى صلاحية تلك الأفكار التي تدعو للسلام والعدل وبذلك يساهم الإعلام الدولي كذراع خفي للإستبداد في دفعهم إلى التطرف، نعم إن الذين يمثلون نظام القتل في سوريا هم سادة إذا أخذنا زملاءهم بالدبلوماسية الدولية بأدائهم المشبوه تجاه سوريا كمقياس عندما ينعمون معاً بأضواء كاميرات العالم الحر وفنادقه ومواقع الاستجمام فيه وتشاركهم بذلك أهم منظومة عالمية وهي الأمم المتحدة ويكون محصلة وجودهم حتى الآن التعطف بتمرير بضعة أكياس من الطحين والأرز وبعض الحليب عبر حاجز قناص يتفنن بالهدف الذي سيودع به رصاصته من جسد طفل سوري أو كهل أو امرأة.

بعد هذه المهزلة السياسية التي احتاجت إلى كل تلك الأشهر بساعاتها التي كانت عقاربها تمر على دماء السوريين ليعلن عن بدئها في جنيف2 ومن ثم بعد كل تلك الأيام الطويلة على بدء انعقاده، هل نستطيع الآن أن نقرأ اللوحة العالمية بوضوح أكثر ونشير بالإصبع إلى تلك الوجوه الباهتة التي ساهمت في إيجاد إطار دولي يصيغ مخرجاً قانونياً لقاتل ويدوس متعمداً على كل قيم العدالة والحرية التي قرأنا عنها، أم أنهم حقيقة لا يعرفون أي شعب عريق تركوه على مقصلة الظلم؟ حيث قيل يوما: "من لا يعرف الصقر يشويه".

التعليقات (1)

    مغترب سوري

    ·منذ 10 سنوات 7 أشهر
    اصبت كبد الحقيقة ،لقد أدرك السوريون منذ اليوم الاول ان لا احد سوف يقف معهم سوى الله،بل على العكس اذ وقف الجميع مع الجمزار بدعم غير مسبوق لأنهم جزارين مثله،هذا على مستوى الحكومات،اما بالنسبة للشعوب فلا تعتب عليهم بل يجب ان تشفق عليهم لأنهم تحولوا في زمن العولمة الى هياكل عظميه بعد ان تم سحب إنسانيتهم ،حتى صار الكلب اهم من البشر،شكرًا للكاتب
1

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات