الطابور الخامس السوري

الطابور الخامس السوري

عندما ابتدأت الثورة السورية ابتدأ معها تشكيل غرف عمليات سياسية في عقول الوصوليين الذين دخلوا عالم الثقافة والسياسة في العقود الماضية من باب التوصيفات والتحليلات التي أهلتهم في تلك الحقبة المتصحرة ثقافيا ليكونوا كما يقال باللهجة الشامية "وجه السحارة "، بعد إقصاء عقول سوريا ومبدعيها عن الفعل، وبما أن الثورة لها مقاييس لم يعتادوا عليها أصبحت غرف العمليات تلك المصممة داخل تلافيف رؤوسهم تعطيهم مؤشرات معركتهم السياسية حسب تطور الأحداث على الساحة السورية، وبالمقابل فإن كل مواطن عانى من هذا النظام وكل مثقف سوي وسياسي ناضج يعرف أن الناس لم تخرج طلبا للإصلاح، كما أخذ يسوق ذلك الطابور الخامس في المراحل الأولى للقتل ومنه هيئة التنسيق التي استقصدت سرقة كلمة تنسيق من التنسيقيات التي أبدع السوريون الشباب بتشكيلها، ولا شك كلنا نعرف تلك الشخصيات التي نسقت صفوفها لتتعربش على خيوط الفجر التي تحملها الثورة، وكذلك لتحجب عن أصحاب الفعل حقهم بثورتهم، ومثال هؤلاء ميشيل كيلو وحسن عبد العظيم وهيثم مناع وعدد آخر ليس بالقليل في الداخل والخارج، لم يخفِ ميشيل كيلو حينها ترحيب بشار الأسد بنصائحه الإصلاحية وبحماس بثينة شعبان وغيرها من أركان النظام له، بل ربما استشعر عبر غرف العمليات التي في رأسه أن بشار الأسد قد يجد في شخص ميشيل وأسلوبه البلاغي فرصة لتسليمه منصباً مهماً، يصبح عندها بمثابة الاسفنجة التي تمتص النقمة وتسوق الإصلاحات العظيمة المرتقبة، وكذلك ربما فعلت غرفة عمليات رأس حسن عبد العظيم وخاصة بعد ما قابل السفير الأمريكي، أما هيثم مناع قد تكون قادته غرفة عملياته إلى اعتبار نفسه ولي الفقيه الروسي الإيراني وابتدأ يسعى ليصبح ولي الفقيه الأوربي في تلك القارة الباردة التي تفتقد لقادة تاريخيين، فالقادة المتواجدين الآن يناسبهم مقاسه، أثبت بشار الأسد أنه أذكى من هؤلاء كلهم وأدرك أن الشعب السوري خرج للإطاحة بنظامه الطائفي وبمافيا توزيع الغلة والغنائم المحيطة به، ولذلك اعتبر الأسد أن هيئة التنسيق هي الدجاجة التي تعطيه بيضا على طاولة القمار العالمية، فنسق لها المساحة وكرمها بوصفها معارضة وطنية، لكنه يعلم أنه حين يفسد البيض وتشيخ الدجاجة يتم البحث عن دجاجة أخرى. فهم كيلو ذلك فمرر رسالة استجداء لحسن نصرالله المقاوم كي يشاركه هم البحث عن مخرج إصلاحي لسوريا، وكذلك لأصدقائه الروس والفرنسيين، لكن كل تلك الأطراف كانت تعلم علم اليقين أن الثورة بوادٍ وهؤلاء بوادٍ آخر. بالتأكيد تيار بناء الدولة لصاحبه لؤي الحسين هو أدنى حتى من هذا ولا يفيد البحث في أثره.

مع تقدم الثورة على الأرض خرج كيلو من عباءة التنسيق إلى فضاء أرحب، وخطف الأضواء عن هيثم مناع لينصب نفسه ولي فقيه التحليل والتحريم والرجل الصالح لكل المناسبات والأطوار، وأخذ يطلق مصطلحات جديدة بعيدة عن الإصلاح الطوباوي بل تتقاطع مع النظام بطريقة جديدة عبر المشاركة معه لبناء سوريا الجديدة، وهذا الأمر سيجد له بيئة حاضنة وجاهزة من رجال ونساء قادتهم غرف عمليات رؤوسهم إلى ذات الأنانية السياسية التي تبحث عن لقب مهما كان شكله في الواجهة السياسية للثورة، وأصبح هؤلاء جميعا مدجنة متكاملة ومتعددة البيض تنتج ما يريح الشرق والغرب من عبء هذه الثورة التي هزت عروشهم كما عرش الأسد، وبذلك تشكلت بيئة سياسية قاصرة استلمت زمام الحل والربط السياسي لهذه الثورة، وهذا ما جعل الأحداث التي تطورت تبدو كأنها تحمل كل الأفكار التي قد يتمناها الأسد ونظامه فيتلاقى الطرفان من جديد. وهكذا تدرّج التلاعب بدماء السوريين مع تطور الأحداث، وأصبح الخطاب السياسي مثقلا بالتحليلات والتوصيفات التي تقود إلى زرع اليأس وتنمية الفتنة لإضعاف الثورة والثوار، ضحك الأسد كثيرا عليهم واستهزأ بإطلالاتهم التلفزيونية ولربما كان يدفع بالخفاء لاستضافتهم كي يضخوا السم بالدسم في أفواه الناس وعذاباتها، لتبدو الثورة كأنها وبال عليهم.

تفتقت أخيرا مواهب جديدة قديمة بآن لبعض تلك الشخصيات التي لم تغادر غرفة عمليات أوهامها ليشكلوا جوقة تشكيك بمعارك كاملة، وليس فقط بأفكار تطرح من هنا أو هناك، فكانت معركة الساحل الأخيرة هي الفيصل في فضح مابقي مستورا، هنا اتضح أن من ناب عن الأقليات السورية في هيكل المعارضة كان هو بالأساس نتاج غرفة عمليات بعقلية أقلوية تتناسب مع تلك البطانة من ممثلي الثورة بائتلافها ومشتقاته، فمعارضة الصور والكاميرات والابتسامات لم تعد دموعها على الوطن كوطن، بل أصبحت على ما تبقى من وطن، وللأسف ما تبقى من وطن هو بالنسبة لهم تلك المدن والبلدات التي تفرخ القتلة وتقبع تحت رايتهم، هو اعتراف بأن جزء الوطن الذي يمثلونه قد دمر وهو يدفع فاتورة الرفع من شأنهم إلى واجهة المشهد السياسي، وعلى الجزء الآخر أن يبقى صامدا في معاقله كي يسند لهم كرسيهم الأقلوي في ذلك الألبوم الذي يحوي صورهم، تمخض العقل الأقلوي لديهم عن قلق من نتائج فتح معركة الساحل، وهنا لم يتطور موقفهم مع تقدم الثورة على الأرض بل إن تقدم الثوار أسقط ورقة التوت عن غرفة عملياتهم وبدت كم هي رديئة في تصميمها وتأثيثها، وهنا نستطيع القول إن من مثل الأقليات حتى الآن هي وحدها الأكثرية التي هتفت "الشعب يريد إسقاط النظام"، وستظل ترفع شعارها حتى لو بقي هذا النظام متمترسا في آخر ذرة تراب سورية، ولن نتفاجأ حتى بعد سقوطه أن تبقى تلك الشخصيات قابعة في غرف عمليات رؤوسها توصّف وتحلّل وتحذّر.

التعليقات (2)

    kaled almasri

    ·منذ 10 سنوات أسبوعين
    مقال رائع وعميق.

    ثورة الفلاحين أهل الريف

    ·منذ 10 سنوات أسبوعين
    طائفة تنكّرت لأصلها بدلا من الإنضمام للثورة والحزب الشيوعي الصيني تنكّر لمبادئه في مناصرة الفلاحين ومعاهد الأسد لتعليم القرآن وغرس فكرة الشهداء أكرم من في الدنيا وأنبل بني البشر ـ يتركون زوجات و خوات و أمهات و بنات لا يوجد من يعيلهم؟ أيُّ كرمٍ هذا؟ ألأجل راحته النفسية؟ ألطمعه بالجنة؟ أليكون على يمين العرش؟ أيُّ نُبلٍ هذا؟ هكذا علمهم الأسد ليموتوا بثمن بخس!
2

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات