وفي الذكريات الأبعد حيث سبعينات القرن الماضي كانت صيحات الأطفال في مدارسهم تتبدل شيئا فشيئا، ويخفت الهتاف للعلَم ويحشر اسم الوطن في زوايا الحنجرة كغصّة تمتد ارتداداتها نحو القلب. هناك على مساحة الذاكرة صورة قائد احتلت مكانها على الكتاب والدفتر والجلاء المدرسي وأسقط عيد الجلاء السوري عمدا وتربع عيد التصحيح على عرش البركات وتوالت السنوات وتساقطت الأسماء فلا أبطال في تاريخنا ولا شهداء، لا كتّاب لا شعراء لا إبداع، وابتدأت الصفقات والمبادلات. الأسد المتربع في كل مكان يحتل بتماثيله وصوره الساحات والأزقة والمكاتب، ويحتل شاشة التلفاز الوحيدة، ويحتل الجامعات والمشافي والمكتبات والحدائق، وبيعت حديقة الوطن الجميلة الجولان.
فإسرائيل هي المعيار والبوصلة والمبادل الأهم في هذه الجغرافيا. وبالتأكيد رافق صفقة الجولان منع قيام الدولة السورية بالمعنى القانوني والحضاري، وارتفع شعار إلى الأبد برعاية مافيا الإرهاب الدولية.
وبالتوازي ابتدأت المقايضة على لبنان الدولة والمنارة وعلى الوجود الفلسطيني فيه، ودخل جيش النظام يؤدي دوره في صفقة مازال لبنان يدفع ثمنها وربما سيستمر بذلك لأجيال قادمة.
في الضفة الأخرى من الحدود دارت رحى الحرب العراقية الإيرانية، ودخل الفرس بخزائن كسرى الجديدة وحجزوا لأنفسهم مكانا في سوق المقايضات، ودخل النظام علنا في المزايدات بدعمه لإيران ضد العراق ضاربا عرض الحائط بكل الشعارات القومية التي رفعها وحشر الخليج العربي في دائرة الابتزاز، ثم أعلن التحالف الدولي الحرب على العراق، وكما هو معلوم فقد دخلها النظام مع الأمريكان ليس من باب الدفاع عن الكويت وأمن الخليج، بل لتحسين أوراق المقايضة مع الأمريكان بالذات. تماما كما أنهى التوتر على الحدود الشمالية بمقايضة عبر اتفاقية أضنة مع تركيا عام 1998 التي لم تعرف تفاصيلها الكاملة.
وفي الحقيقة يحار المرء من أين يبدأ، وماهي عدد المقايضات التي مارسها عبر عقود، وماهي عدد الدول والجماعات والأفراد الذين استفادوا أو تضرروا من تلك الصفقات؟ لكن الملفت بالأمر أن كل دول الطوق مضافا إليها دول الخليج العربي كانت تتعامل معه كشر لابد منه.
واللافت أيضا في هذا السياق هو ما تدرجت إليه الأمور بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري وما تلاه من اغتيالات وتشكيل المحكمة الدولية وسرعة صفقة خروج جيش النظام من لبنان، ثم التدرج الدولي الخبيث بإدخال المحكمة الدولية بمتاهات الزمن والتسويف، ثم إعادة تسويقه كلاعب مقامر ومساعدته دوليا في صفقة تسليم رقبة لبنان لحزب متطرف لا يحمل أية أجندة وطنية ألا وهو حزب الله الذي استطاع أن يعوض النظام العديد من أوراق المقامرة التي خسرها.
وعندما ابتدأت الثورة السورية وأخذت تشق طريقها نحو النصر، وابتدأت معها أوراق التوت تتساقط عن عورات المجتمع الدولي، ليتضح حجم دوره في إدارة تلك الصفقات التاريخية لعقود، ومع صلابة صمود الشعب السوري وقدرة الثوار على فرض واقع جديد كان لابد للصفقات من أن تأخذ شكلا جديدا، فالنظام الذي أتقن فن الشعارات التي غطت صفقاته قد حشرته الثورة في الزاوية الضيقة وابتدأت المقايضة تأخذ شكل الفجور الأخلاقي لا السياسي. فعلى سبيل المثال قايض هذا النظام من سجونه أكثر من 2130 سجينا مدنيا سوريا بينهم 1155 معتقلاً ، و975 معتقلة في الشهر الأول من عام 2013 مقابل 48 إيرانيا، وربما هي المرة الأولى بالتاريخ التي يقايض بها نظام مواطنه بهذه الطريقة التي لا يمكن توصيفها ولا تصنيفها بأية خانة. نعم لم يفاجأ السوريون بذلك فالقذائف التي تحصد أرواحهم يطلقها هذا النظام وسيطلق المزيد، وجاء الكيمياوي وجاءت الصفقة الجديدة ليظهر فيها ما يسمى بالعالم المتحضر كأبشع مشترٍ ومسوق للرذيلة والقبح..
وتتوالى الأرقام ويصعب ترقيم الصفقات. فأولئك النساء اللاتي أفرج النظام عنهن في الشهر العاشر من 2013 بصفقة مؤلمة ومضحكة بآن، لم تصل صرخاتهن إليه ولا إلى حزب الله الذي صدع رؤسنا بصياحه على خشبة مسرح المقاومة ليظهر ذلك الحزب على مرآته الحقيقية وبلا رتوش كمليشيا طائفية تشارك هذا النظام الممانع ليس بالقتال إلى جانبه وحسب، بل بتبادل رجالها الميامين اللبنانيين مع سوريات خطفهن النظام من بيوتهن أو شوارع سكنهن وأودعهن سجونه.
ضمن هذه المعادلات عاش النظام مستفيدا من حالة التردي العربية شرقاً وغرباً، ومشاركاً في زيادة التشرذم كلاعب مقامر يعمل على امتلاك الأوراق وبيعها حسب الظرف والتاريخ لاستمرار بقائه كنظام عصابة تحييه الصفقات وتمد بعمره، وليس كنظام وطني يبني بقاءه على منجزاته الوطنية.
وهكذا الآن يحمل ملفات شعبه المعتقل والمحاصر والممنوع من الماء والخبز، وعلى كل ملف خاتم رسمي يصف ما بداخل الملف بكلمة (إرهابيين)، ليبادلهم مع سوريين أيضاً وجدوا بالجرم المشهود يدوسون على جثث سوريين آخرين، والهدف ليس هنا بل في مكان آخر، وهو مساومة العالم المتحضر على فرش المزيد من السجاد الأحمر لوفود هذا النظام في عواصمه التي قبلت على نفسها أن تصل إلى هذا الدرك من التصرفات غير المسؤولة بتنظيم مؤتمرات رسمية ترفرف فيها أعلام دول كبرى فوق جثث آلاف الأطفال، وبرغم ذلك وافقنا على تأمل تلك البهرجة الإعلامية لمؤتمر جنيف2 على أمل أن تكون هذه الصفقة مختلفة عن سابقاتها بين من يرعون قتلنا بدبلوماسيتهم الفجة، وذلك بتقديم قاتلنا ألا وهو النظام ككبش فداء لرد بعض من ماء الوجه، ولكن حتى بهذه الصفقة لن يتطهروا من ذلك العار في تاريخ الإنسانية الذي ستقرأ عنه أجيال العالم القادمة ذات يوم بكل لغاته الحية وتبصق قرفاً.
التعليقات (1)