في هذا التلفزيون قضيت ليال طويلة أحتفي بتاريخ التلفزيون القديم وأسعى للتذكير وحفظ علاماته البارزة التي أصابها الإهمال، وأعد البرامج الثقافية والفنية وأنجز برامج تسجيلية حين يسمح الهامش، وأكتب المقالات في الصحف عن الخلل والفساد والمحسوبية في ردهاته وكواليسه وغرف مدرائه الذين تعاقبوا عليه، وواظبوا الواحد تلو الآخر على منعي من الدخول إلى المبنى بسبب مقالاتي التي وصفني مدير التلفزيون الأسبق صفوان غانم (السفير السوري في فيينا لاحقاً) بسببها في التسعينيات، بأني (شقفة نص نصيص قاعد بحضنا وعم ينتف بدقنا)!!
لي في التلفزيون السوري ذكريات عمل تمتد لخمسة عشر عاماً، كان آخرها في عام 2005 حين أنهيت برغبتي برنامجاً يومياً كنت أعده، واعتذرت عن برنامج آخر صدر قرار إداري باسمي لإنجازه... وخرجت من باب المبنى لا أشعر بأي مشاعر أسف أو غصة، سوى على بعض اللحظات الجميلة التي قضيتها مع زملاء عملوا بشرف وإخلاص وفرحوا بإنجازاتهم الصغيرة، وظلموا كما يظلم كل شريف ومخلص في هذا المكان، الذي لم أكن فيه موظفاُ يوما، بل كنت أمنع من دخوله كلما رفعت صوتي في مقال، أو انتقدته في صحيفة... باعتباري شخص يمكن الاستغناء عن خدماته بمجرد توجيه شفهي هاتفي يصدره أي مدير، لرئيس مفرزة الأمن التابع لفرع المداهمة الذي يحرس وعناصره المبنى من المندسين... كما حدث على سبيل المثال لا الحصر، حين كتبت عام 2002 أول مقال سياسي في حياتي: (لماذا يشعر المواطن السوري بالقرف من الحياة)!
لي في التلفزيون زملاء أحترمهم، وشبيحة يعرفوني وأعرفهم... ويكرهونني وأكره أشكالهم، ولا أنسى ما حييت المخرج الذي انفجر في وجهي ذات مرة بسبب مقال كتبته عنه: (أنا برقبتي 150 أخوان مسلمين وحق الإمام علي بيصيروا 151).
وقد أورثني هذا التلفزيون ملفاً ضخماً من التقارير الأمنية التي كتبت ضدي، حتى ضقت ذرعاً بالاستدعاءات الأمنية فكتبت ذات يوم مقالا بعنوان: (كيف أكتب تقريرا أمنيا بنفسي) استدعيت فيه إلى الأمن مرة أخرى... أتبعته بعد عامين وإثر انتفاضة الأكراد عام 2004 بمقال يوثق حادثة منعي من دخول التلفزيون لأنني على حد تعبير من كتب بي التقرير الجديد، كنت أحرض الأكراد ضد الدولة وهكذا جاء مقالي بعنوان أثار شهية الوزير أحمد الحسن لاستدعائي: (بقرار انتقامي من مدير عام هيئة الإذاعة والتلفزيون: جعلوني مناضلا كردياً).. وكان المدير العام حينذاك هو معن حيدر!
كل هذه الذكريات أو الكوابيس لا تبدو ذات قيمة اليوم، إلا في سياق ما توحيه من دلالات عن الأجواء العامة التي سادت في هذا الجهاز الإعلامي الأمني بامتياز طيلة عقود... والتي ربما تحفل ذاكرة زملاء آخرين بأضعاف مما رويت... إلا أن صورة وأداء التلفزيون السوري في زمن الثورة التي اشتعلت في البلاد كانت تفوق كل هذه الممارسات!
لقد تطير التلفزيون ومدراءه ومخبروه شراً منذ هبت رياح الحرية على تونس، فقرروا أن يتجاهلوا طيلة شهر كامل من أحداث الثورة التونسية ثم سقوط بن علي كل ما جرى وكأنه يحدث في كوكب آخر، وفعلوا الشيء نفسه مع الثورة المصرية، حتى كان يوم سقوط مبارك، فخرج جهابذة التلفزيون الممانع ليعلنوا أن سقوط نظام مبارك هو إسقاط لاتفاقية كامب ديفيد قبل أن ينقلبوا ضدها... ثم قرروا حين انطلقت مظاهرات الأموي وأحداث درعا أن يواجهوا الاستحقاق الأمني المنوط بهم بصرامة. كانت أولى ركائزها الإنكار ونشرات أخبار: (الحياة طبيعية ولا شيء يجري)... ثم انغمسوا في الدم، فمارسوا عهراً لم يعرفه التاريخ... حذفوا مقابلات لمواطنين – سربت لاحقاً على اليوتيوب- ظنوا أنهم يشكون همهم لإعلامهم الوطني، وجعلوا من قرية البيضا في العراق، وشبيحة الأمن السوري الذين يدوسون الناس بأرجلهم بشمركة... وبيان الحليب خيانة وتحريضاً ضد الوطن سيق الفنانون تحت التهديد إلى أستوديوهات هذا التلفزيون من أجل الاعتذار عنه... ومن المتظاهرين إرهابيون وسلفيون... ومارسوا كل ما جادت به مخيلتهم من كذب وتلفيق وتزوير وافتراء على دماء الشهداء وتحريض على القتل.
كل بث التلفزيون السوري لا يساوي قطرة دم طفل، ولوعة أم مفجوعة، وخبر افتراء على شهيد جعلوه إرهابياً، ولحظة بث انتزعت فيها اعترافات متلفزة تحت التعذيب من مواطن بريء يسوقه هذا التلفزيون العاهر مجرماً لأنه هتف للحرية.
لقد انفض جمهور التلفزيون السوري عنه منذ سنوات، وخسر كل أمجاد الماضي، وغادره منذ عقود إعلاميون كبار أسهموا في تأسيس محطات عربية كثيرة حاملين خبرة بناها المواطن السوري بالجد والتعب والرغبة في إثبات الذات... وصار الشغل الشاغل لإدراته منذ سنوات إقامة الأسوار الحجرية ثم هدمها، وتخريب واجهته الحجرية عبر مناقصات ومزايدات إكسائها بالأصباغ الفاقعة والبلور الأزرق، وتبديل أثاث مدراء المكاتب الذين ينخر الفساد والاستزلام الأمني كل رؤاهم وأداءهم وفهمهم لدور الإعلام الوطني... وقد أكملوا هذا الفهم وهذا الدور فجعلوا ممن تبقى من إعلاميي التلفزيون باستعداداتهم الأمنية المسبقة شبيحة، ومسلحين، لا يخرجون إلا بسيارات الأمن، ولا ينقلون إلا صور الجيش الباسل وهو يقتل ويدمر ويهدم البيوت ويحرق المدن، لكنه يبدو على شاشة التلفزيون السوري: رحيماً ومضحياً يجازف بحياته من أجل الوطن والمواطن!
لن يحزن السوريون على صورة التلفزيون السوري البائسة أكثر مما حزن العراقيون على تلفزيون صدام حسين، أو الليبيون على تلفزيون جماهيرية القذافي وهو يمعن في أيام هذيانه الأخيرة في نشر الكذب والعته والبله...
إنها صورة إعلام شمولي أمني عاش لعقود بوجه كئيب، وعقل مشوه، ومضى ينتج بثاً ضاغطاً على أنفاس البشر وأحلامهم في أن يروا صورتهم في مرآة إعلامهم (الوطني) صورة إعلام يتهاوى وتتهاوى معه عصر الأنظمة التي أنجبته أو شوهته وجعلته مطية وركوباً بدل أن يكون صوتاً ينقل الوجع وصرخة تفضح الفساد حتى لو راعت قمة السلطة لاعتبارات البقاء.
وربما كان أفضل ما يمكن أن يقال الآن في هذا المقام... ومن هذه الغربة: إكرام الميت دفنه!
* رئيس تحرير (أورينت نت)
التعليقات (28)