لا شك أن التجربة العراقية من وجهة نظرنا فاشلة وأوصلت ذلك البلد العظيم إلى هذا التردي الذي نشاهده، ولكننا في حقيقة الأمر لا نعرف أسرار الدول التي ساهمت في جعل العراق على ماهو عليه فقد ترى تلك التجربة ناجحة جدا وطريقة هذه الشعوب في إبادة نفسها بنفسها هي أفضل السبل لتأجيل اندماجها بالحضارة الإنسانية حيث الديكتاتور الذي كان يؤدي هذا الدور قد استهلك وتم إيجاد الدوبلير ليقوم بالدور ذاته، ولذلك فإن العمل على إيصال سوريا إلى مرحلة الدمار الذاتي بعد نفاذ دور الديكتاتور سيكون مفيداً بحجب هذه الدولة عن الاندماج مع الحضارة لسنوات طويلة. هذا الأمر قد يكون صحيحاً في جانب منه، لكن من غير الصحيح أن تؤخذ التصنيفات بهذا الشكل، فقد مورس على السوريين لإفشال ثورتهم ما لا يتخيله عقل آدمي وصولا إلى السلاح الكيمياوي تحت هذه الرعاية الدولية الوقحة وماتبعه من انتقام غير مسبوق من حلب وغيرها عبر تلك البراميل الحاقدة، وبرغم ذلك بقيت الثورة تتقدم حتى مع حرمانها من السلاح ومحاصرتها مادياً والالتفاف عليها بشراء الذمم الرخيصة المندسة بها.
وبهذا أثبتت أنها حالة متجددة ومتوقدة ولها القدرة على استنباط أساليب الدفاع عن نفسها بطريقة لايفهمها إلا المدرك لطبيعة السوريين. فالسوريون الذين حكمتهم هذه الطغمة بغفلة من الزمن، كانت تلك الحقبة هي المفاجئة والاستثنائية بتاريخهم، واتضح أن صناع القرار الدوليين لا يدركون أن هذا الأمر لن يتكرر، فسوريا بعد هذه الثورة المباركة لا يمكن أن يحكمها شبيهاً للمالكي ومن يحيطون به، ولن تصل إلى هذا الدرك برغم زحمة مؤتمرات المعارضة والتشدّق قبل كل مؤتمر بأن هذا المؤتمر هو من سيمثل السوريين ويعمل على إنهاء مأساتهم، ومحاولة من يديرون بعض الإعلام عبر غرف تلك السياسة الدولية تعويم شخصيات بعينها علهم يفون بالغرض كانت فاقعة، فكان الشعب السوري دائما بالمرصاد وأسقطهم قبل أن ينهوا إنفاق مدخرات مؤتمراتهم، بل أصبح يسقط ما يعد من مؤتمرات يعتقد دعاتها أن الثورات يمكن أن تدار من خلف المنصات.
كما أن سوريا لن يوجد فيها رجل كالسيسي ذلك الضابط الذي استطاعوا تلميعه بسرعة البرق وأحاطوه بكل تلك الهالة من الكياسة ليستطيع التسلل في الأزقة البسيطة بعدما تدرجوا بالتلاعب بصناديق الانتخاب التي جاءت بالحكم الذي سبقه كمحاولة تحوي في طياتها الكثير من الألغاز في طريق القضاء على ثورة أم الدنيا التي ألهبت قلوب الملايين حول العالم.
فالسوريون دائماً عيونهم لاتنام عن حراسة ثورتهم وأسقطوا من حساباتهم كل الشخصيات التي حاولت غرف السياسة الدولية تقديمها كجس نبض قبل أن تكمل البروفا الأولية في مسيرتها كدوبلير، وفي سوريا أيضاً أسقطت الثورة كل الحسابات الدبلوماسية الهزيلة ولم تترك منفذاً لها لإيجاد نسخة سورية من المنصف المرزوقي الذي دخل الثورة التونسية بلا نكهة ولا انتماء سوى لبعض الشعارات المستهلكة وتناسى مع حكومة الغنوشي أن تلك البلاد الخضراء كانت السباقة في ربيعنا وعليها تقع مسؤليات جسام أمام التاريخ، كما أن التجربة اليمنية من المؤكد أنها أصبحت وراءنا، أما لبنان الذي يفتقر إلى سياسيين موهوبين ويمتلكون الفطنة ما أتاح المجال لتطاول بعض الشخصيات الموتورة فيه على دولة بحجم سوريا معتقدين أن الزمن سيستمر على هواهم بتلك الأفكار المتحجرة والضيقة فقد حكم على نفسه عدم الخروج من بوتقة حكم الحارات تحت اسم دولة وهذا أيضاً صيغة هشة لتلك السياسة الدولية الخرقاء.
أما الجانب الأهم فهو في تلك الفواتير التي ستدفعها المنطقة بشكل متكامل وأولها بدأت تظهر علائمه بهذا التجاهل الأميركي المتعمد للعلاقة التاريخية مع دول الخليج العربي وعلى رأسها المملكة السعودية مقابل تلميع الدور الفارسي وتسليمه مزيداً من الأدوات لتمزيق بنية مجتمعاتنا بطريقة سوقية رخيصة، فالثورة السورية لو قرأها صناع القرار السياسي في الخليج العربي بشكل سليم منذ انطلاقتها لفهموا أنها هي المعين لتلك الدول إن أرادت إثبات وزنها وليس العكس، نعم ثورتنا تحتاج أشقاءها في الخليج لكن هذه الحاجة ربما مؤقتة وعدم وجودها يعني دفع فاتورة أكبر من الدم كما يحصل الآن لكن الثورة بكل الاحتمالات هي ذاهبة نحو النصر المدوي كما كانت صرختها الأولى مدوية، ولهذا فمصالح المنظومة الخليجية على المدى البعيد تكمن في هذه الثورة بالذات وهذا ما لم تقرؤه تلك الدول بشكل سليم، ولربما هناك من همس لها إن القضاء على الثورة هو الذي يصب في مصلحتها لتنجلي الحقائق رويداً رويداً ويتضح أن هذه الثورة اليتيمة هي الرافع الحقيقي ليس لدول الخليج فحسب بل لإنسان هذه المنطقة التي طالما استنزفت لصالح تثبيت الكيان الصهيوني ووجود الممول الفارسي كخنجر مسموم يكمل ذلك الدور القذر في تفتيت هذه المجتمعات.
إن تلك المدارس السياسية الدولية التي مازالت تراهن على أنها تمتلك مفاتيح الحل والربط نجدها وقفت حائرة أمام صلابة السوريين بل عاجزة عن فهم ما يجري وكيف استطاع شعبنا الإفلات من تلك الدسائس السياسية التي استسهلت إغراقه بدمائه ريثما ينتج لديها دوبلير جديد للدكتاتورية فغرقت هي في سفالتها وتركت ديكتاتورها العاري يصارع بآخر الأنفاس مستعيناً بأكثر أنواع المرتزقة خسة على وجه المعمورة عله يسعفها بحل ينقذ ماء وجهها، فصفقة تسليم الكيمياوي التي حاولت تغطية عارها بها ليست كما توهمتها وسام شرف في تاريخها بل زادت انحطاطها انحطاطاً، والديكتاتور الذي خدمها بها أصبح هو السلاح الكيمياوي الذي سيقذفه الشعب السوري في وجه تلك السياسة الدولية لتحترق بشر فعلتها ويصبح صناعها كأسوأ أنواع السياسيين على القائمة السوداء في تاريخ البشرية، وغداً لناظره قريب.
التعليقات (0)