هل أصبح السوريون كلهم سياسيين؟

هل أصبح السوريون كلهم سياسيين؟
إن ما يجري من تخبط في شؤون المعارضة السورية وهذا الكم من الرؤى والمواقف السياسية التي يتلقاها المواطن السوري، وهذا الضخ اليومي للآراء منذ بداية الثورة السورية مع كل ما تحتويه من تناقضات وتباينات وإن صبت في مجملها بإدانة النظام والدعوة لإسقاطه ومحاكمة رموزه المشاركين بالجرائم مضافا إليها إدانة المجتمع الدولي لتقاعسه في حماية السوريين. كل هذا المشهد يخفي خلفه مرضاً مزمناً سيطر على حياة الكثير من السوريين عبر عقود وانعكس على طريقة تفكيرهم وطريقة أدائهم وهو مرض (المشاريع الورقية وصناعة هياكل جوفاء محاطة بكم هائل من الشعارات والتنظير) لم يكن صعباً على أي شخص يتمتع بقليل من الذكاء والحس الوطني السليم أن يعي حقيقة ما ادعاه قادة التنظير السياسي في هذا النظام الذي اغتصب البلاد وسرق أحلام أبنائها ثم باعهم أطناناً من الشعارات القومية والثورية والشعبية، لا بد لذلك المتأمل من قراءة ما خلف الأكمة. إن حالة الاستلاب النفسي والعقلي التي عمدها مؤسسوا هذا النظام لتصبح منهجاً يومياً يستوعب بموجبه أجيال السوريين المتتالية ضمن قافلته الأبدية بمقولته الشهيرة "إلى الأبد إلى الأبد" حسب ما كان يظن ويخطط، هي بالواقع شبكة لا نهائية من البرامج المحددة التي نسجت بطريقة عنكبوتية لتشمل كل ما يمكن أن يتكون أو يولد إن كان طفلاً أو فكرة، فعلاً أو طموحاً، في الحياة العامة أو الخاصة، في الداخل أو بلاد الاغتراب المختلفة التي قصدها بعض السوريين لأجل لقمة عيشهم.

لم يكن جاهلاً هذا النظام عندما غزا الكتب والدفاتر المدرسية منذ مرحلة الحضانة المبكرة حتى آخر مرحلة من مراحل التعليم، ولم يكن غبياً عندما أثقل المناهج التعليمية بالكثير من المواد الحفظية الجامدة على حساب المواد الإبداعية التي تتطلب المبادرة. ولم يكن فوضوياً حين جعل ممارسة أي مهنة خاصة، حتى وإن كانت بمجال الحلاقة، تتطلب موافقة أمنية. ولم يكن في غيبوبة عندما أطّر الإعلام المرئي منه أو المقروء أو المسموع بحزبه، فالحزب بالنسبة له هو ظل واسع لقائد رمز. وبصراحة لا يمكن تعداد تلك الشبكات التي تفنن في نسجها حتى على صعيد الاستثمار أو السياحة بشقيها الداخلي والخارجي. فتلك المنظومة فعلت فعلها بحياة الناس ونمط تفكيرهم ولم يكن أمامهم نوافذ ولو محدودة في الحصول على جرعة هواء صحية أو شعاع نور يسمح بالنمو الطبيعي وغير المشوّه خلال سنين عمرهم. كان السجن بالمرصاد لكل خرق لشروط الحياة التي خططها النظام أو الإعدام تحت عنوان موت مفاجئ أو مرض عضال.

وكان من الطبيعي أن يلجأ الكثير من السياسيين والمثقفين السوريين إلى الصمت أو محاولة إبداع وإن كانت محدودة في مجالات أخرى كي لا تبقى حياتهم معلقة لأجل غير معلوم. نجح النظام عبر المؤسسة الأمنية وتفرعاتها الحزبية والنقابية من تكريس دوره في تنظيم وتقرير كل ما يحيط بشؤون الناس وبهذا دخلت أغلبية السوريين في حالة من السبات من حيث الفعل، الأمر الذي أخلى الساحة بمجملها لما يفرزه هو. لا يبالغ أي من السوريين إذا ماقال إن أحلامنا كانت مؤجلة بل هو شخص متفائل، أما المتشائم كان يهمس ويقول لقد دفنت أحلامنا ولا أمل بأن نمتلك قراراً نحدد فيه شكل إنسانيتنا على هذه الأرض.

جاءت الثورة السورية في سلسلة الربيع العربي. وكنا كسوريين نتبادل التهنئة مع سقوط كل طاغية معتبرين أن غيمة الكآبة ابتدأت تنزاح عن كاهل هذه الشعوب وسيبدأ عصر جديد نعيد فيه الوهج لطبيعتنا البشرية المستلبة ونشق الطريق لأبنائنا وأحفادنا كي ينتموا إلى منظومة الأمم المنتجة والفاعلة حضارياً وثقافياً.

خرج السوريون من سباتهم الطويل تماماً كالبرعم من جدار البذرة السميك، لكنها ليست بذرة نخيل لتعطي برعماً واحداً في القمة, بل كأي نبتة تتفرع منها أغصان متشعبة، لا يعني هذا أن النخلة هي النموذج الذي كان يجب أن تسير عليه الثورة من خلال برعم قائد في الأعلى، بل إن الشروط الطبيعية للحالة السورية ضمن قيود تلك الشبكة الأمنية أن تكون نبتة متفرعة وهذا يختصر سبب فشل النظام في قصم ظهرها بالرغم من هذه الشراسة في مقارعتها، لكن أهم ما يمكن أن يقوله السوريون في الداخل أو الشتات هو إنهم لم يوفقوا بسياسيين على مستوى عظمة صمودهم، فالصيغة التي تكونت فيها شبكة النظام العنكبوتية كان لها الدور الأساسي في نشوء هذا النموذج من المعارضة، وهو ليس نموذجاً لعدم الوطنية أو التواطؤ كما كان يتهم النظام خصومه بل نموذجاً لقلة الحيلة وضعف الممارسة بالحياة العامة وأيضاً بسبب تجذر حالة الاستبداد على امتدادات خيوط تلك الشبكة وضرورة قصقصة تلك الخيوط حتى الدقيق منها. هو فوران غير منتظم لأحلام كانت مؤجلة أو بحكم الميتة مضافاً إليها ماعكسه سلوك التربية تحت إشراف النظام عبر عقود وحالة الاستلاب والتدجين. فلكل سوري مبرراته لثورته الخاصة كذلك كل حارة وقرية ومدينة حيث امتدت شبكة النظام العنكبوتية. ولأجل هذا يتحتم على السوريين إعادة قراءة بعضهم من جديد وبلا عناوين مسبقة أو شعارات، وعلى السوريين في المعارضة تفهم أن للمتدين حقوق كما للعلماني، وللطائفة الصغيرة طموحها كما للطائفة الكبرى، ولغير المتعلم طموحه كما للمتعلم. وباختصار هو طموح إنسان حجبت عنه الحقوق في ممارسة إنسانيته. لكن المؤلم في هذا المشهد الذي ظهرت فيه المعارضة السورية هو انتقالها من فاعل إيجابي إلى مجرد محلل سياسي يشرح ويقدم الوصف. والمؤسف أنها حتى الساعة تحاول أن تغطي عجزها أو عدم نضجها من خلال الإكثار من المؤتمرات والهيئات. في البداية كان هنالك شيء من الأمل بتشكيل المجلس الوطني ولكن التجربة لم تنضج فكان تشكيل الائتلاف منقذاً له ولكن من المحزن أنه بسرعة فقد هيبته وبريقه وأصبح غالبية السوريين غير مبالين بما يستجد من مؤتمرات وقرارات أو هياكل أخرى وإن رعتها دول، بل الملاحظ أن السوريين مازالت رؤيتهم لهياكل المعارضة التي تم إنشاؤها ترتبط برؤيتهم القديمة لهياكل البعث ونظامه الأمني، وهذا بالذات مايجب على المعارضة بهذا الكم من السياسيين إعادة تقييمه كي تعيد تقييم تجربتها، فمأساة السوريين جعلتهم يعتقدون أنهم كلهم سياسيون وعلى السياسيين في الصف الأول والثاني تفهّم ذلك ليس لحين انتصار الثورة فحسب بل لحين استقرار البلاد فيما بعد.

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات