ميلاد "موجع" ..يا حلب

ميلاد "موجع" ..يا حلب
لحلب ركن قصي في زوايا روحي، سكنتها طفلة، وكم كنت أخترع الحجج من مرض أو رغبة ملحة في شراء شيء ما من الأسواق – ذلك أننا كنا نقيم في حي من الأحياء التي كانت تقع على أطراف مدينة حلب آنذاك - خلال فترة أعياد الميلاد.

كنت أنتظر هذه الفترة من العام كي أتأمل في شوارع حلب المتوجة بالأضواء، بالزينات، بأشجار الميلاد..

كنا ننتظر تلك الفترة كي نزور صديقتنا "المسيحية " في بيتها، خلال أعياد الميلاد، لنشاهد شجرة الميلاد المزينة القابعة بقرب النافذة.

كان لفندق "أمير" الذي يقع في وسط المدينة سحراً خاصاً خلال تلك الفترة من السنة، كنا نحس ألقه يمتد ليعانق كل ما في حلب من بشر، من حجر، من شوارع وأزقة..

كبرت قليلاً وانتقلنا إلى مدينتي الأم "إدلب"، لم تكن الكرنفالات كبيرة بحجم كرنفالات حلب، ولكن كان هنالك ثمة ما يوحي أن هنالك عيد، وكنت تشاهد شجرة الميلاد في مناطق مختلفة، وإن لم يكن هنالك مكان ينشر الفرح والبهجة مشابهاً لذاك الذي في "فندق أمير".

كانت هنالك بعض الأسر المسيحية التي نتبادل معها المعايدة في الميلاد، نتذوق خبز القداسة اللذيذ، ونستلذ بنكهة "مربى الكباد"، و"مربى الجوز" اللذين كنا نصنعهما في بيوتنا، ولكن في الميلاد.. وفي بيوتهم كانت له نكهة فريدة، كانت له نكهة العيد!

اليوم ..هنالك شيء ما يضيء سماء حلب أيضاً، ولكنه –وللأسف – ليس العيد، ولا أضواء أشجار الميلاد..

اليوم سماء حلب مضاءة بفعل النيران الصادرة عن براميل الموت، و"فندق أمير" بات أثراً بعد عين، ذلك أن الخراب والدمار نال منه ما نال..

اليوم ..أكثر من 1000 شهيد في حلب في غضون حملة شعواء امتدت لمدة تناهز الأسبوع..

كل شيء بات خجولاً..بابا نويل سيزور حلب على استحياء، ربما كي يحمل في جعبته أكفاناً للأطفال الذين يموتون تحت الأنقاض، أو ليمنح أطرافاً صناعية لأولئك الذين فقدوا أيديهم وأرجلهم من جرائها، وسيبكي..أجل سيبكي ويبارك أولئك الأطفال الذين فقدوا أسرهم تحت الأنقاض!

في حلب..لم يعد هنالك مكان للزينة والفرح، رائحة الدم والحريق تنتشر في كل مكان، وأجراس الكنائس ستقرع اليوم، ولكن لا للاحتفال بميلاد رسول السلام..بل حزناً وحداداً على السلام الذي راح صوته يتلاشى وسط قعقعة السيوف.

ولم لا؟ فالناس ذاتهم الذين كانوا يتبادلون التهاني في الأعياد حتى سنوات ثلاث خلت، باتوا اليوم يتبادلون الطعن والسباب والشتائم..

صديقتي ذاتها التي كنت أزورها في بيتها أيام الدراسة لأتأمل شجرة الميلاد، اقترحها علي "الفيسبوك" فأشحت وجهي، خفت أن تتلاشى تلك الصورة الجميلة في ذاكرتي عنها، أو أن تتجاهل طلبي بسبب حمى التقسيم الطائفي الحاصلة في البلد!

حتى أولئك المسيحيون الذين هم مع الثورة قلباً وقالباً، باتوا بين نارين، فالأكثرية تلقي عليهم اللوم بسبب موقف مرجعياتهم الدينية المحايد، والذي له ما يبرره في الواقع، فمن يشاهد ما جرى للأب "باولو داليليو" الذي وقف مع الثورة من اللحظة الأولى فكان مصيره الاختطاف في الرقة، والذي أشيع أن داعش هي المسؤولة عن عملية اختطافه، ومن يتذكر مصير الأب "باسيليوس نصار" كاهن مطرانية حماه للروم الأرثوذكس الذي قتل في مدينة حماة في بدابات الثورة، ويربطه بمصير المطرانين "يوحنا إبراهيم" و"بولس يازجي" اللذين مضى على اختطافهما من منطقة على الحدود السورية- التركية فترة تناهز التسعة أشهر من ناحية، ومن ناحية أخرى ليس هنالك ما يشجع لجهة ما جرى مع راهبات "كنيسة مارتقلا"، وما حصل لكنيسة الأرمن في مدينة الرقة والتي استولت عليها "داعش" وحولتها إلى مكتب دعوي!

أما النار الثانية فهي نار أبناء دينهم من المسيحيين الذين يرمقونهم بنظرة الشماتة أحياناً حين يشاهدون المآل الذي آلت إليه أمور الثورة، والذي يجعلهم يقولون "نار النظام" ولا "جنة المعارضة"!

أولئك الذين كنا نبادلهم التهاني والتبريكات في الأعياد، باتوا حذرين في طقوسهم الاحتفالية، واضطروا إلى ارتداء "الحجاب" حفاظاً على حياتهم في بعض الأحيان، وبتنا نخشى أن نتمنى لهم ميلاداً مجيداً خوفاً من جواب قد يكون قاسياً، وخوفاً عليهم من موقف المتشددين منهم إن كانت نبرتهم متسامحة معنا..

من المؤسف حقاً أن تجد أن المجتمع قد انقسم إلى "نحن" و"هم"، ولكنه واقع الحال..الكثيرون منهم نعرف أنهم يكنون لنا معزة خاصة، ولكن تواصلهم معنا لا يتعدى الإعجاب بصورة أو معايدة دونما تعليق..

تراها إذا توقفت البراميل، أستطيع زيارة صديقتي التي جمعتني فيها مقاعد الدراسة، وأتأمل شجرة الميلاد في بيتها من جديد؟

تراها ستعود الزينات لتتلألأ في سماء حلب؟ أم أن تلك الزينة ستصبح حلماً بعيد المنال!

والأهم من هذا، هل سنستطيع تذوق "مربى الكباد" في إدلب لدى معايدة أخوتنا المسيحيين في أعيادهم، أم أن ملوحة الدم النازف ستنسف أي حلم بتذوق المربى بعد اليوم!

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات