رواية "خمس دقائق وحسب، تسع سنوات في سجون سوريّة"

رواية "خمس دقائق وحسب، تسع سنوات في سجون سوريّة"
"وفي تلك الليلة الباردة أواخر عام 89 وَلَجْتُ سيّارة عمتي وقد قاربت السّاعة الثالثة بعد منتصف الليل، وتكوّرت على نفسي أتقي البرد القارس والقادم المجهول، وبينما كانت السّيارة تعبر بنا المدينة من طرف إلى طرف، كانت المشاهد أمامي تنطق بالوحشيّة أنى اتجهت..، والنواعير التي طالما حركت بأنينها شجى القلوب أراها جامدة خامدة، وقد جفّ من تحتها العاصي وتيبست حولها الأشجار والحقول...، وماتت على شفاه المشاهد هيئة الحياة، وحدها سيارات المخابرات لم تتغير برغم السنين... ".

*خمس دقائق وحسبْ

"وقتها ارتدّ بي البصر إلى دمشق عام 85 وعُدّت بالذاكرة إلى ليلة رأس السنة في بيتنا بالبرامكة قبل تسع سنوات بالتحديد، ليلة أن اصطفت سيارات المخابرات على طول الشارع في منتصف الليل، وسألنى رئيسهم أن أذهب معه خمس دقائق وحسب، فانتزعوني من الحياة تسع سنوات كاملات، دون أن أعرف سببا لذلك إلى اليوم!"، بتلك الجمل ختمت الكاتبة (هبة دباغ) عجزها في روايتها "خمس دقائق وحسب. تسع سنوات في سجون سوريّة" لمعرفة سبب التعذيب المتواصل والإذلال التي تعرضت له، والذي تقشعرّ له الأبدان في كل تلك السنوات.

*فصول العذاب

"دباغ" هي الناجية الوحيدة من أسرتها الحمويّة التي أبادها الأسد الأب في عام 1982م، تروي للقارئ تفاصيل تسع سنوات قضتها في سجون نظام آل الأسد، وما عانته من قهر وظلم وعذاب ومرض وآلام نفسيّة، في ذلك تتحدث عن تجربتها في ست فصولٍ يمكن اعتبارها "المراحل" التي قضتها في السجن، فتروي في الفصل الأول بدايات الاعتقال وسببه تحت مسمّى "خمس دقائق وحسبْ" وفي الفصل الثاني عن "كفر سوسة، رحلة خارج الزمن في الفترة ما بين يناير 1981-أكتوبر1982"، ثم تنتقل في الفصل الثالث إلى "سجن قطنا، الموت البطيء ما بين أكتوبر 1982-1985"، من ثم الفصل الرابع "سجن التحقيق العسكري في غيابة الجب، ما بين أغسطس1985-أكتوبر1989"، وفي الخامس "سجن دوما، معركة مع الزمن، ما بين نوفمبر1985-أكتوبر1989"، أما الفصل السادس والأخير فهو عن خروج الكاتبة من السجن وعنونته بـ"الفرج والإفراج والذي كان في ديسمبر 1989م" حسب ما قسّمت إليه الرواية.

*قصة وقصص لأُخْرَياتْ

"الدباغ" لم تكن الناجية الوحيدة، بل نجا أخٌ لها هو صفوان لتواجده خارج سوريا، بينما قتل أزلام آل الأسد وقتئذ باقي أفراد العائلة وهم حوالي عشرة أفراد، من الأب إلى الأم، إلى الأخوة والأخوات الصغار، في مجزرة حماة الكُبرى عام 1982م التي عجزت اعتى ديكتاتوريات العالم عن ارتكاب مثيلٍ لها، وهنا يجدر القول أن الرواية غنية بالأسماء والتفاصيل وحكايات التعذيب، مما يؤهلها لتكون توثيقاً لما اقترفه آل الأسد، فتهمة الكاتبة التي أودعوها السجن تسع سنوات، أنّ لها أخاً ينتمي إلى جماعة الإخوان المسلمين، لذا اعتقلت لتكون رهينة عند النظام حتى يسلم أخوها نفسه للسلطات، أيضاً تتناول الرواية قصص المعتقلات الأخريات وحكاياتهن، وكل تفصيل من هذه الحكايات تفزع القلب وتقض المضجع.

فما حجم الألم الذي يعيشه الإنسان في وطنه؟، وهل وظيفة الأوطان تعذيب أبناءها؟، ألا يمكن أن يكون الإنسان في وطنه حراً كريماً؟، تلك الأسئلة ستسألها لنفسك حين تنتهي من قراءة الكتاب كما يقول عبيدة عامر أحد قرّاء الرواية، الذي أضاف أنّ أكثر ما يذهل هو، العاطفة والأمومة داخل السجن، وهنا كتبت "هبة" -الكاتبة- بصدق، وقتلت نفسها مرّة أخرى، لتُحيي ذكرى ووقائع لا يجب أن تموت، فبعد أن دخلت بنت العائلة، خرجت ولم تجد العائلة في أكثر الفصول إبكاءً وألماً.

*تُنبّئ بعدد مهول للسجينات السّوريات

هي مأساة جديدة من مآسي السجون السوريّة، لم تكن الرواية تجربة شخصية فحسب، بل كانت عبارة عن تجميع لقصص السجينات اللواتي صادفتهن الكاتبة خلال حياتها في السجن برأي فتوح جركس، الذي أشار بعد قراءته للرواية، أنها تُنبّئ بعدد مهوّل للسجينات السياسيات في سوريا، وتدل على ذاكرة الكاتبة المذهلة في تذكّر كل التفاصيل والأحداث، وعند مقارنة أحداث اليوم بأحداث القصة ستدرك براعة التاريخ في تكرار نفسه!

"خمس دقائق وحسب" كتاب مؤلم، ومُحزن للقارئة سارا عطيّة، وأكثر ما أثر بها هو خاتمته حسب قولها، فهي لبست حالة الكاتبة قائلة "لا أتخيّل نفسي بعد تسع سنوات من السجن والعذاب والأمراض الجسديّة والنفسيّة، وتأتي بعدها لحظة الحريّة، فأشعر بالضياع ولا أدري أين أذهب، الأهل جميعهم قتلوا إلا ثلاثة من أخوتي هاربين من جحيم الوطن، وعائلة نصفها يعملون لصالح مخابرات النظام!، إنه الألم في أقسى صوره" على حد تعبيرها.

*وحشيّة النظام منذ الثمانينات

أيمان العمري، تقول "لقد قرأت كلمات الكاتبة بألم وحسرة لأننا من بنات هذا الوطن الذي عاث فيه الطغاة والظالمين فساداً وأعترف أني قد ذرفت الدموع في بعض الأسطر التي قرأتها لشدة الوحشية في التعذيب ولأنني كنت مصدومة من الوحوش التي قد يكون الحجر أحن من قلوبها، ومعظم ما خطر في بالي أن هذا التعامل مع البشر موجود لغاية الآن في وطني بل ازداد بشاعة بعد اندلاع ثورة الكرامة السورية، وأنه في هذه اللحظة يوجد شخص يعذب بالمعتقلات، وأن كانت قصة هبة الدباغ قد انتهت فهناك الكثيرين بأعداد لا تحصى داخل السجون الأسدية حتى هذا اليوم وذنبهم الوحيد هو حقهم الإنساني في التعبير عن رأيهم والعيش بكرامة وحرية".

بعد انتهاءك من الرواية "تحس بعدها بقيمة الماء والطعام النظيف، كما الهواء النقي والحريّة والضوء والكثير من النعم التي لا تعد ولا تحصى" كما ترى وجدان عبد العزيز، التي أضافت أن "وحشية النظام التي نراها على شاشات التلفاز موجودة منذ الثمانينات في السجون السياسية لأبرياء سجنوا ظلما وحقداً".

*جدير بالقراءة

"خمس دقائق وحسبْ، تسع سنوات في سجون سوريّة" كتابٌ نُشر سنة1995م، ويأتي في 229 صفحة، جديرٌ بالقراءة للتعرف أكثر على تاريخ نظام آل الأسد وجرائمه البشعة المرتكبة بحق الشعب السوري منذ تسلّمهم للسلطة -لأكثر من أربعة عقود- وحتى يومنا هذا، تلك الرّواية إلى جانب العديد من الروايات التي كُتبت في تلك الفترة -أحداث حماة، مجزرة حماة الكبرى- تُعتبر توثيق لمرحلة خطيرة من مراحل التاريخ السوري المعاصر، مرحلة وثّقها أيضاً كُتابٌ آخرون ومنهم "مصطفى خليفة" في روايته "القوقعة -يوميات متلصص" التي تسرد يوميات شاب مسيحي ألقي القبض عليه لدى وصوله إلى مطار بلده سوريا عائداً إليه من فرنسا وأمضى اثنتي عشرة سنة في السجن دون أن يعرف التهمة الموجهة إليه، إلا فيما بعد وكانت دعمه للأخوان المسلمين.

التعليقات (4)

    ابداع الكاتبه وقصه كل سوري!

    ·منذ 10 سنوات 4 أشهر
    حزن الكاتبه هو حزن ترسخ باعماق ٢٢ مليون ضحيه.تصيبني حالات من الاكتئاب والحزن ظننتها تخصني وحدي فوجدتها بعيون كل سوري مترسبه في اعماقه يحاول اخفاءها الهروب من التفكير بها, يحاول الضحك على نفسه انه يعيش يتنفس وبافضل حال, ربما كابوس عائله الوحش ووحشيه مخابراته تحول الى جين وراثي يتوارثه كل سوري فلم نعد نشعر اننا متنا ونحن احياء!

    سيرين الخراز

    ·منذ 10 سنوات 4 أشهر
    أكثر من رااائع .. استفدت منه كثيراا .. شكراا

    ساره

    ·منذ 10 سنوات 4 أشهر
    حزينه القصه

    Sobhi Nadir

    ·منذ 10 سنوات 4 أشهر
    السلام عليكم سيرة ذاتية ( و ليس رواية ) مؤلمة جيدا و معبرة... و جديرة بالقرأة... من جهة أخرى أريد معرفة فيما اذا كان هذا الكتاب مترجم الى الفرنسية.
4

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات