ولا أبوح بسر اليوم إن قلت إن الهوة أصبحت عميقة بين الداخل والخارج ومن الصعب ردمها أو تجاهلها، وربما الكثيرون في الخارج يعلمون بشكل أو بآخر أن محصلة نشاطاتهم على مدى هذه الثورة على الداخل قد تقارب الصفر فمن أين ابتدأ الخلل؟. لا شك أن العقود الخمس الماضية قد فعلت فعلها في تكوين العقل الجمعي في البنى المجتمعية السورية وهي تنطلق أساساً من مفاهيم التلقين لا مفاهيم التفاعل وهي انعكاس حقيقي لسلوك القائد الرمز, المطلق, الأوحد, البطل, المحرر, والملهم وما إلى ذلك من عشرات الألقاب، أجيال عديدة نمت ونضج وعيها على تلك الأوصاف والألقاب ومنها غالبية السياسيين والمثقفين والطامحين لنيل شيء من شرفات البرج العاجي الذي كان يدور في خلايا العقل الباطني لهم، بعضهم عبر عقود حصل على شهوته المحدودة في انتمائه لمؤسسات البعث ورعايته مستفيداً من طاقاته بالتملق ونال منصباً هنا أو هناك وشهرة ثقافية أو فنية أو اقتصادية أو إدارية في مؤسسات النظام المختلفة بدءاً من البلديات والمراكز الثقافية, وربما أصغر ووصولاً إلى الحالة الأكبر والأوسع على مستوى الوطن، وبعضهم بقي على الهامش يترقب ويحاول الحصول على فرصة الولوج لهذا الهيكل المزيف والواقعي بآن معاً، أما البعض الآخر فقد رفض هذا الواقع ومفرزاته وأدواته وطرق التملق والابتزاز وبقي متفرجاً كونه لايمتلك أدوات التغيير الحقيقية. لاشك في أن هذا البعض الأخير من مثقفي سوريا كان جلهم يعيشون في برجهم العاجي الخاص ومنفصلين عن الواقع وهذا ما أفقدهم زخم المصداقية والقبول من الشارع. لكن هذا لا ينفي عنهم حسن اطلاعهم وحجم المخزون الفكري الذي امتلكوه والذي كان إحدى الوسائل للتحايل على الإستبداد وحالة التهميش والقمع التي يتعرضون لها لكنها للأسف لم تسخّر تلك الخزائن التي في رؤوسهم لتحسين علاقتهم بالآخر بطريقة الإنسان لأخيه الإنسان بل بطريقة القائد الأوحد الرمز وما إلى ذلك من تسميات تجول في عقلهم الباطن والتي تتيح لهم رؤية الجمهور كجهلة لا يدركون قيمة فكرهم.
عقود مرت والغربة تزداد بين الناس في شؤونها وبين مثقفي الأمة. وبالمقابل كان الحسد والأنانية وضيق الأفق يبعد المثقفين أيضاً عن بعضهم البعض ولذلك عاشوا كل تلك السنوات مجرد أشخاص منعزلين، مضافاً إلى ذلك رقابة النظام الصارمة على لقاءاتهم أو تواصلهم مع بقية أبناء المجتمع ومع بعضهم.
إذا فحالة التماهي بين الفرد المغلوب على أمره والباحث عن رزقه والمطيع لأسياده وبين صورة القائد، هذه الحالة التي تؤكدها دراسات السيكولوجيا في شرحها للإستبداد هي حيلة الفرد بسعيه للخلاص عبر الذوبان الكامل في صورة المستبد على أمل أن يحمل له الأمان والانعتاق من أزماته هي بحد ذاتها حالة جمعية توحدها الرؤية للمستبد.. وآخرون هم المثقفون الذين جمعهم إحساسهم بتفردهم بامتلاك الوعي وفهم ما يحصل وبحثهم عن مفاتيح البرج العاجي الذي انضووا فيه في خيالهم..
وجاءت الثورة.. وكما فاجأت النظام فاجأت كتلة المثقفين بكل تصنيفاتهم, بعضهم رآها فرصة للشعب للخروج من حالة التماهي تلك فانتمى إلى الناس والبعض الآخر رآها فرصة لتعويض نفسه خسائر عمره فيما كان يظنه بنفسه كصاحب أحقية بالإسراع إلى منبر القيادة والرأي. لكن المفاجأة الكبرى كانت أن الشارع قد ساوى كثيراً بين هذا الجزء الأخير من المثقفين وبين الظالم المتمثل بالنظام الذي انتفض عليه وهذا حقه.. فالإنسان الذي اختصره القائد الرمز والموجه الأول خرج ليهدم الصورة والتمثال وحالة التماهي من رأسه قبل المكان وعليه فهو غير مستعد لقبول موجهاً جديداً كان بالأساس يراه ثقيلاً بإطلالته من برجه قبل الثورة، والملاحظ أن بعض أولئك المثقفين والسياسين في الخارج قد كرروا نفس خطأ المستبد حين استعمل أغلبهم صيغ الجمع مثل نحن ونظن ونعتقد ونقول ونريد والخ.. وأيضاً تناسوا أن الوصول لصاحب المصاب لمشاركته ولو بكلمة أو لمسة هي أقرب وأسرع من درس التوجيه السياسي أياً كانت قيمته وأيضاً نسيوا أو تناسوا أن سوريا مليئة بالكفاءات والقارئين والمهتمين بالشأن العام ولهم طموحهم المشروع أيضاً وهم على تماس مع الحدث ومازالوا بالداخل ويمتلكون القدرة على تعرية كل لقاء تلفزيوني أو العمل على حرق أوراق من ظن بنفسه أنه استطاع القفز والصيد باللحظة المناسبة فأخذته الحالة ولم يراجع حساباته. ومن اليسير على أي شخص يملك بعض الثقافة في الداخل أن يقنع الكثيرين أن هذا الذي كان على التلفاز أو في ذاك المؤتمر هو في المكان غير المناسب وهذا ينطبق أيضاً على محطات الثورة. وربما من سخرية القدر أن تأخر انتصار الثورة قد خلط الأوراق فأصبح كل شخص على استعداد أن يعطي رأيه بأي شخص وبأي حالة. وكل سوري انخرط بشكل أو بآخر بالنشاط الثوري أصبح يعتبر نفسه صاحب حق ورأي بكل شيء. نعم يؤمن مثقفوا الداخل الذين مازالوا بالكواليس أن هذه المرحلة مرحلة حرق أوراق. ويعلمون جيداً أنهم قد غيبوا قسراً عن الواجهة من قبل المعارضة الخارجية تماماً كما غيبهم النظام عبر عقود. وبذلك أستطيع القول أن من في الخارج وبعد تواصلي مع عدد منهم بشكل أو بآخر وباطلاعي من هنا وهناك على ما في جعبهم أستطيع القول: إن بعضهم يشبهون تماماً ذلك الممثل الذي يؤدي دور البطل في مسرحية مترجمة بمسرح الحمراء حيث يظن أثناء البروفا أن جمهوره قادم إلى الإفتتاح لمجرد طباعة صورته على النافذة ثم يفاجأ أن الجمهور مازال في البيت وأولئك العابرين بسوق الصالحية جلهم لا يعلم أين مدخل ذلك المسرح اللهم إلا من رائحته التي يعرفها أبطال الثقافة في زمن الإستبداد.
وبكل الأحوال وأيا تكن صوابية هذا الموقف أو ذاك فإن الأمراض التي أفرزتها طبيعة الإستبداد انعكست على الجميع.
التعليقات (0)