وطني الأكبر: وقائع الرحلة من ضاحية قدسيا إلى جرمانا

وطني الأكبر: وقائع الرحلة من ضاحية قدسيا إلى جرمانا

أعتقد أن الرحلة التي قمت بها من ضاحية قدسيا إلى جرمانا تستحق أن تدخل في سياق موسوعة غينيس للأرقام القياسية من حيث الوقت الذي استغرقته وتجاوز ثلاثة ساعات، ومن حيث الحواجز التي مررت بها – كما غيري - وكأنني أعبر الحدود الدولية لبلد بلا منفذ بحري كأفغانستان الذي تحيط به ستة دول... مع فارق أن عبور الحدود بين دولة وأخرى لايتطلب أكثر من إبراز جواز السفر لمرة واحدة وتستطيع السفر والتجوال حيثما تشاء.

قبل مغادرة ضاحية قدسيا يجب أن يتم تفتيشك من قبل ثلاثة حواجز، أولها يأخذ بطاقتك الشخصية ويدخلها إلى الحاسوب ليتأكد من أنك غير مصاب بأي نوع من الأمراض الوبائية حتى لا يتم التحفظ عليك وإيداعك (مشفى الطوارئ) لحماية المجتمع من أمثالك، وثاني الحواجز وثالثه لإشعارك بوجودهم واختبار قدرتك على الصبر أمام المكاره، لكن المفارقة الأكبرعند عودتك مساءً عندما يطلب منك أحد العناصر بطاقتك الشخصية وسط الظلام وأنت متاكد أنه لايستطيع المطابقة بين وجهك وصورتك الموجودة على البطاقة.

تنقلت خلال الرحلة عبر أربع خطوط للمواصلات، وفي كل مرة أحاول عبثاً إيجاد مقعد شاغر في أي باص وسط ازدحام الناس الكثيف الذين ينتظرون مثلي، الوقت يمر ببطء، وعلى بعد عشرات الأمتار أشاهد قافلة من الباصات تقف خلف الحاجز الأمني بانتظار إنتهاء تفتيشها من قبل عناصر الحاجز الذين يلزمون الباصات ووسائل النقل الاخرى بالإصطفاف خلف بعضها في رتل أحادي في شارع تم وضع منصف من الحواجز يقسمه إلى نصفين لتخصيص طريق موازي تم تخصيصه للمتنفذين ولزوم الوصول السريع لقوافل النجدة والدعم السريع !..

 بلد آخر!

بعد انتظار ممل أرى من بعيد أحد الباصات يهم بالوقوف وينزل منه أحد الركاب، أسارع بالركض باتجاهه مخترقاً إزدحام الناس لأصعد وأجلس في مقعد ليس له ظهر خلف السائق، وعيناي ترى الحسرة والإحباط في وجوه الناس الذين لم يتمكنوا من الركوب، أتنفس الصعداء مع إحساس بالراحة والغبطة وكأنني ربحت جائزة الإصدار السنوي لليانصيب، ويبدو أن فرحتي الغامرة لم تدم أكثر من دقائق عندما وقف الباص خلف طابور طويل من السيارات إمتد عشرات الأمتار أمام حاجز يختفي خلف حائط من أكياس الرمل، الوقت يمر ببطء، درجات الحرارة تجعلني أتصبب عرقاً، أصوات الإنفجارات والقصف يخترقان حواسي الخمس، أمد رأسي من شباك الباص الضيق، أتلفت يميناً وشمالاً، أبحث عن الدهشة في وجوه الركاب، فلا أجدها، ورغم ذلك لايوجد لدي شعور بالقلق أو الخوف، ليس لشجاعة طارئة بل لأن لدي إحساساً كبيراً بالقضاء والقدر يبعث في داخلي شيئاً من الاطمئنان إلى أنني سأصل بأمان لزيارة أختي المهجرة هي وأولادها في جرمانا.

وصلت إلى جرمانا التي لم أزرها منذ أكثر من عشرين عاماً، الحال هنا تبدو مختلفة وكأنني دخلت أراضي بلد آخر، الشوارع مزدحمة بالناس الذين يواصلون حياتهم العادية، المقاهي والمطاعم تمتلىء بروادها، روائح السمك المشوي على الطريقة العراقية تتشارك مع روائح الدجاج المشوي المنتشرة أيضاً على البسطات المتناثرة في أماكن كثيرة مع انتشار واضح لباعة كل أنواع السلع الغذائية والمنزلية والدخان المهرب، الناس تمارس حياتها بشكل طبيعي، حتى الحواجز الموجودة تبدو أقل تشدداً من الحواجز المنتشرة في دمشق وريفها المجاور.

 بين قدسيا وضاحيتها

على امتداد الشارع الرئيس في مدينة قدسيا تبدو آثار التدمير والحرائق واضحة على واجهات الأبنية والمحلات، ولم يقم أصحاب البيوت والمحلات بإجراء أعمال الصيانة لشعورهم أن الأوضاع ليست مستقرة، لذا قاموا باستبدال الأبواب الزجاجية بالنايلون السميك مع إجراء صيانة بسيطة غير مكلفة، مع إنخفاض كبير بكمية السلع وتنوعها، والمعروف أن أسواق قدسيا كانت تعتمد سابقا على سكان ضاحية قدسيا في تسويق سلعها، وبعد إغلاق أسواقها بسبب التدمير الذي حصل فيها، قام معظم أصحاب المحلات بنقل أعمالهم إلى ضاحية قدسيا.

مهربات وسلع مجهولة المصدر تتموضع بكثافة على بسطات تنتشر بكثافة على إمتداد الشارع الرئيس في قدسيا، ورغم إستفحال مشكلة الغاز المنزلي وغيابها عن أسواق العاصمة، فهي متوفرة بكثافة هنا، مع سدادة حمراء أو زرقاء تشير إلى أن المصدر الذي تأتي منه العبوات هو من لبنان، حيث يقول أحد الباعة إنهم يأخذون العبوات الفارغة إلى هناك وتعبئتها ومن ثم إعادتها إلى الأسواق السورية وبيعها بسعر يتراوح بين 2500 إلى 3000 لير ة سورية.

مفارقة عجيبة يذكرها الدمشقيون أيام الحرب اللبنانية في منتصف السبعينات من القرن الماضي عندما كان معظمهم يستهلكون الخبز اللبناني الذي يهربه للداخل السوري سائقو سيارات الأجرة التي تعمل بين البلدين مع سلع أخرى تفتقدها الأسواق السورية، أهمها الموز اللبناني والصومالي الذي كان يؤمن حاجة السوريين رغم الفوضى وغياب الاستقرار في لبنان، ومع ذلك كانت الأسعارفي ذلك الوقت أقل بكثير من أسعار مثيلاتها المنتجة في سورية الآن!!

*حاشية:

أحد المواطنين قام بشراء أثاث منزله المسروق من السارقين عندما شاهد سيارة محملة بالمسروقات على بعد حوالي مائة متر من منزله واكتشف بالصدفة أن الأثاث المحمل هو له، وحتى لا يدخل في مواجهة خاسرة مع اللصوص، قام بمساومتهم وشراء الأثاث دون إشعارهم أن حمولتهم مسروقة من منزله!!

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات