حذار أيها الدمشقيون!

حذار أيها الدمشقيون!
عاب أحد الأصدقاء على بعض الدمشقيين المنتمين للثورة دفاعهم عن الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي بعد حادث مقتله الغامض، ومحاولة التبرير له واختلاق ذرائع تبيض صفحته أو تدرأ الهجوم عليه بعد رحيله... واعتبر الصديق الذي هو من أشد المؤمنين بدور دمشق وأهميتها مع أنه ليس من أبنائها... أن الموقف التبريري للبوطي ناجم عن التعصب له كدمشقي، شأنه في ذلك شأن حالة الإعجاب والإطراء التي حظي بها الدمشقي أحمد معاذ الخطيب بعيد خطابه المؤثر في قمة الدوحة.. فهل يتكتل الدمشقيون اليوم وراء بعضهم بعضاً على خلفية التعصب لدمشقيتهم؟!

فكرت ملياً في تساؤل هذا الصديق المشروع... ورغم أنني أعرف أن الموقف من البوطي بعد مقتله ناتج عن احترام حرمة الموت أكثر منه تفهماً لموقفه العدائي السافر من الثورة... وربما هو نتاج  خوف تقليدي قديم من شتم العلماء في المعتقد الشعبي الدمشقي... إلا أن فكرة تعصب دمشقيين لدمشقيتهم بدت لي أمراً يستوجب التأمل بل والمراجعة، وخصوصاً ونحن نعيش واقعاً جديداً أزالت فيه الثورة كل الفوارق والتمايزات الجغرافية، وأعادت ترتيب سلم الشرف الاجتماعي وفق ما قدمته كل منطقة من إسهام ثوري حقيقي... فأعطت شرف الريادة لدرعا (مهد الثورة) وأسبغت على حمص بعدد شهدائها الكبير وتضحياتها الملحمية المبكرة لقب (عاصمة الثورة) ثم مضت لتضم لآلئ العقد السوري في طوق يجمع حباته الثمينة من كافة المناطق السورية إلا من آثر أن ينأى بنفسه عن هذا الشرف، أو جعل من مناطقه خزاناً بشرياً للمشاركة في قمع الثورة بدل المشاركة في إذكائها ضد نظام الظلم والاستبداد.

أعود إلى دمشق لأتفحص معنى التعصب الذي يتهم به الدمشقيون أو بعضهم اليوم.. ولأستذكر معنى دمشق كمدينة.. كانت على الدوام رافعة الحراك السوري الاجتماعي والسياسي والتجاري قبل أن يقضي حكم البعث على هذا الحراك ويشل رافعته بكل ألقها التاريخي، فأرى أن دمشق في الأدب وفي التجارة وفي السياسة لم تكن يوماً ملكاً للدمشقيين فقط... ولم يتعصب الدمشقيون يوماً لأبنائهم في أي عهد مضى... ولو قارنا بين اسمين جاءا إلى رئاسة الجمهورية أكثر من مرة بانتخابات نزيهة وحرة... وأعني: شكري القوتلي وهاشم الأتاسي.. لوجدنا أن احترام الحمصي هاشم بك وذكراه الجميلة في وجدان الدمشقيين لم تكن تقل قيمة عن احترام الدمشقي شكري بك.. ولو تأملنا في الفعالية السياسية للزعيم الحموي فخري بارودي، والزعيم الحلبي سعد الله الجابري، لوجدنا أن هؤلاء شكلوا زعاماتهم الوطنية في دمشق لا في حماه أو حلب... رغم ما يتمتعان به من مكانة في مدينتيهما طبعاً. ولو أردنا أن نتغنى بأجمل ما قيل من شعر بدمشق في الأدب السوري المعاصر لبدا بدوي الجبل قمة من قمم هذا الشعر قبل أن يبزغ نجم شاعرها نزار قباني.. وفي دمشق لا في اللاذقية عاش بدوي الجبل حياته السياسية الصاخبة وعبر عن مواقفه وعن فرادته.. وهكذا كان حال نجيب الريس الصحفي اللامع الذي جاء من مدينته حماه ليستقر في دمشق وهو في العشرين من العمر، ثم ليصدر جريدته (القبس) فيها وهو في الثلاثين، لتكون ديواناً للحركة الوطنية السورية خلال عقود.

لم يقدس الدمشقيون يوماً من اشتغلوا من أبناء مدينتهم في السياسة أو الشأن العام على أساس التعصب لدمشقيتهم، ولم يغفروا لهم خطاياهم لأنهم أولاد الحارة أو الحي، أو من نسل أصحاب الدماء الزرقاء... صحيح أنهم تعصبوا لمدينتهم في الهوية والعمران والتقاليد الاجتماعية... ورأوا أن جزءاً من فرادة دمشق يكمن في حفاظ أهلها على تراث المدينة وعشقهم المأثور لها، لبيوتها وحاراتها وأزقتها ولغوطتها ونهرها وقاسيونها... لكن هذا الحرص كان أشبه بحرص صاحب البيت العريق بأن يباهي بجمال وفرادة بيته أمام ضيوفه وزائريه... ولم يكن حرصاً على جعل دمشق للدمشقيين وحدهم... فدمشق كان تستوعب الجميع وتصهرهم في بوتقتها الحضارية متى احترموا تقاليدها الاجتماعية... وكانت دمشق تحترم على الدوام أصحاب الهمم والعقول مهما بَعُد مسقط رأسهم ونشأتهم، بدليل أنها أتاحت للأمير عبد القادر الجزائري في منتصف القرن التاسع أن يلعب دوراً اجتماعياً وسياسياً بازراً، تقول عنه المؤرخة الأمريكية ليندا شيشلر في كتاب لها عن دمشق بأنه (أحد ألغاز دمشق وأسرارها).

ومن يعرف الحياة السياسية في عهودها الوطنية المختلفة منذ مطلع القرن العشرين وحتى انقلاب حزب البعث الأسود عام 1963 يدرك أن الدمشقيين على العكس من ذلك كانوا أكثر انتقاداً لمن تولوا زمام الحكم من أبناء مدينتهم... فجميل الألشي الذي شغل منصب رئيس وزراء بعد دخول غورو إلى دمشق عام 1920 وشكل حكومة معظمها من شخصيات دمشقية... لقي الكثير من النقد والهجاء في الأوساط الوطنية في دمشق على مر تاريخه... شأنه شأن قريبه تاج الدين الحسني... الذي لم يشفع له في ذاكرة الدمشقيين أنه كان عاشقاً للعمران أهدى مدينتهم الكثير من روائعها المعاصرة... بل جعلوا منه دريئة لنكاتهم وسخريتهم، ولم تشفع لديهم مكانة والده العلامة بدر الحسني (محدث الشام الأكبر) ولا كون الشيخ تاج نفسه قاضياً شرعياً درس الفقه الإسلامي على يد والده، حين خرجوا يصفونه بـ (عدو الله) في المظاهرات الغاضبة ضد سياساته الممالئة لسلطات الانتداب الفرنسي!

ومن يقرأ ما كتبه خالد العظم في مذكراته من هجاء لكافة الأحزاب السياسية  ومنها (حزب الشعب) الذي أسسه عبد الرحمن الشهبندر عام 1925 وكان يضم نخباً دمشقية بارزة... يدرك أن السياسة في دمشق لم تكن يوماً تكتلا محلياً ينصر الدمشقي ظالماً أو مظلوماً... على العكس انتصر الدمشقيون لرجالات الكتلة الوطنية التي كانت برئاسة الحمصي هاشم أتاسي وضمت في عضويتها سعد الله الجابري وعبد الرحمن كيالي وناظم القدسي وأحمد خليل المدرس (حلب) وتوفيق الشيكشلي ونجيب البرازي وفخري البارودي (حماه) إلى جانب بعض الدمشقيين كفارس الخوري ولطفي الحفار ونسيب البكري، ونفذوا عام 1936 إضراب دمشق الستيني الشهير بسبب اعتقال بعض قادة الكتلة الوطنية وإغلاق مكاتبها في دمشق، والذي أرغم فرنسا لاحقاً على توقيع معاهدة الاستقلال.

إن كل هذه الشواهد وغيرها مما لايتسع المجال لذكره هنا، تؤكد أن دمشق حاضنة سياسية تتلاقى فيها النخب والأفكار والقامات لتتصارع وتلمع.. صحيح أن دمشق قد تغيرت وشوهت شأنها شأن سورية كلها خلال حقبة الأسدين، وأن التجارب المريرة التي مرت بها المدينة اجتماعياً وسياسياً شوهت تلك الروح الأصيلة، وخلقت لدى الدمشقيين شعوراً اليوم بضرورة استعادة مدينتهم التي كانت تسرق منهم أولاً، وتطهيرها من الكانتونات الطائفية التي أحيطت بها، وأنتجت هجمة ريفية – عسكرتارية، شرسة على طابعها المديني ثانياً... لكن هذا شيء، والتعامل مع النخب التي يمكن أن تفرزها الثورة ودعمها على أساس انتمائها الجغرافي الدمشقي شيء آخر.

دمشق تكبر باحتضانها لكل النخب السورية فتصبح المعبرة عن الوجدان السوري الوطني وبوصلته حتى وإن لم تتسلم دفة الحكم... وتصغر إذا فكرت خلاف ذلك. والدمشقيون مطالبون اليوم بأن يكونوا الأخ الأكبر الذي يعطي دروساً في نبذ الأنا، وفي استعادة الروح السورية الخلاقة خارج معايير الانتماء الجغرافي.. فالحرية اليوم تعز من يؤمن بها ومن أخلص لها... وقيم الحرية لا تقبل المساومة فلا شفاعة لتاجر دمشقي ظل منتمياً لنظام القتل والاستبداد على مدار عامين من الثورة... ثم جاء يطلب مكانة في الثورة يشفع له فيها بعض الدمشقيين أملاً في تشكيل حلف يبيض صفحته أو يغنيه عن المحاسبة.

إن دمشق التي نفخر بها هي التي  تعتز اليوم بأصغر طفل من أطفال درعا، وبقطرة دم شهيد من حمص، ودمعة أم ثكلى في إدلب.. وحزن بيت تهدم على تخوم الفرات، أكثر مما تعتز ببعض أبنائها الذين وقفوا على الحياد أو تحاول أن تبرر لهم... ودمشق التي أعتز بها كدمشقي هي التي لا تصفق لنجاحات أبنائها الثوار دون أن تحتضن نجاحات وتضحيات كل ثائر في التراب السوري الذي سيأتلق من جديد  حاضناً لياسمينها، وتبراً في بستانها الأموي: بستان هشام.

*  رئيس تحرير (أورينت نت).  

مقالات أخرى للكاتب:

- التلفزيون السوري: إكرام الميت دفنه!

- وثائق المخابرات المزورة!

- تحية دمشقية لإدلب التي نهضت!

- في ثقل دم المعارضة السورية وخفة جهاد الخازن!

- دعارة إعلامية: تاريخ افتتاح الزعتري يفضح أكاذيب أسوشيتدبرس!

التعليقات (12)

    دمشقي أصيل

    ·منذ 11 سنة أسبوعين
    كلام دقيق يعبر عن ما في داخل معظم الدمشقيين ولكني أختلف في سبب الدفاع عن البوطي السبب الأهم هو أنه عالم ثم هنالك أسباب أخرى كثيرة جدا لايتسع المكان لذكرها ،

    سعيد فيق

    ·منذ 11 سنة أسبوعين
    البوطي ليس دمشقيا انه من جزيرة بوطان ابالكردي او جزيرة ابن عمرو بالعربي جزيرة تقع ضمن نهر دجلة في المثلث الغراقي التركي السوري , مكانته من مكانة والده رحمه الله فقد كان اعلم اهل غصره بالمذهب الشافعي الا ان البوطي الابن كان يختلف عن ابيه فقد كان يمتاز بغباء و ضيق افق اورداه المهالك عفى الله عنه وعنا

    غسان عبود

    ·منذ 11 سنة أسبوعين
    رائعة، ونحن السوريين لا نرضى لدمشق الا هذا الموقغ وان عبنا هكذا تصرفات قروية، كما حاول البعض أن ينسب بدايات الثورة لدمشق بدل اعطاء درعا حقها بصبيانية غبية وكان دمشق 8000 سنة حضارة أقدم عاصمة حية وكأن دمشق ينقصها أوسمة وهي وسام سوريا وكل أوسمة سوريا لجيده!؟

    د. عبد الأسمر

    ·منذ 11 سنة أسبوعين
    مقال يجمع شواهد التاريخ مع لغة الأدب وصفاء الرؤية والمشاعر. شكرا أستاذ محمد.. وأعتب لأنك مقل في مقالاتك بالأورينت نت الذي أصبح بسرعة قياسية بالفعل أجمل ساحة سورية مقروءة على الإطلاق

    شبل الأسد

    ·منذ 11 سنة أسبوعين
    ولووووووووو هادا محمد منصور عن جد ولا مجسم عنو؟ طول عمرك متكتب أحقادك الدفينة ومتتعصب لزبالة الشام ... هلق صرت متحكي عن نبز الأنا ؟! يعني بغيب أسبوع عن هالموقع المشبوه منشان ارجع تطلعلي صورتك بوشي وفوق هيك تعليق لغسان عبود باسمو الصريح ... بالله مانو استقبال كيس !!!

    بسيم العمر

    ·منذ 11 سنة أسبوعين
    لك شبل الكر ريتها غيبة للأبد انشالله... انعمى ضربك مابقى تحل عن هالموقع.. يعني بلا ما تطلعك صورة محمد منصور وتشوف اسم غسان عبود يا أخي ريح حالك وريحنا تضرب انت وهالتعليقات الثخيفة متل خطابات معلمك

    بسيم العمر

    ·منذ 11 سنة أسبوعين
    بالمناسبة المقال رائع وفي أصالة الشام. بحيي قلمك أستاذ محمد

    رامي الحمصي

    ·منذ 11 سنة أسبوعين
    اللـــــــــــــــــــــــــــــه,,,, عالشام أرض الخير والأصالة... أشجيتني يا أخي محمد وانت يا شبل الأسد اسمها (نبذ الأنا) مش (نبز) يا جاهل!!

    عدنان العلى المانيا

    ·منذ 11 سنة أسبوعين
    أنا أعتقد أن ظروف هذه الثورة قد قلبت المعادلة القائمة منذ تأسيس سوريا الحديثة وهي أن دمشق كان لها دائمآ حصة الأسد عند كل منعطف من منعطفات تاريخنا الحديث وهذا لايحتاج منا طول تفسير ويجب على كل محلل أن يأخذ هذا بإلإعتبار وإلا نكون قد فقدنا البوصلة

    عبد الله بلال

    ·منذ 11 سنة أسبوعين
    تاج الدين الحسني المذكور في المقال ... حفيده اليوم هو معاذ الخطيب "الحسني" وانا كنت محتار ليش روبرت فورد اختار امام مسجد للائتلاف ..! معاذ الخطيب احرص شخص على الحوار واحرص شخص على عدم انتصار الثوره عسكريا ... صحيح اللي خلف ما مات الله يرحم تراب جدك شيخ معاذ طلعوا الشوام ضد سياساته الممالئه لفرنسا ..والهيئه ان الشعب السوري كلو راح يطلع ضد سياساته الممالئه للنظام ولأمريكا

    علي حمرة

    ·منذ 11 سنة أسبوعين
    نعم دمشق بوتقة لكل السوريين ممن احترموا خصوصيتها ، ونقائها وعمارتها وثقافتها وتاريخها المليء ...ان كان حب دمشق هو تعصب فأنا اشد المتعصبين متعصب لهذا التاريخ لهذه السماء متعصب لنزار متعصب لدمشق القديمة وحواريها ولدمشق الجديدة التي نحلم ....اشكرك صديقي لانك فتحت علينا نافذة عشق

    الحلاج

    ·منذ 11 سنة أسبوعين
    الله يحفظ سوريا و جميع مدن سوريا و شعب سوريا و يقصم ظهر الأسد و عبيده و صبيانه و ستعود الشام كما عهدناها شام الحضارة
12

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات