المصالح السياسية تمنع وصل الساحات العسكرية

حركة ميليشيا حزب الله على الحدود الجنوبية للبنان، والمساعي الدبلوماسية لإيران، والهجوم العسكري لحماس، مفاصل متواصلة ربما ترغب تل أبيب وواشنطن بفصلها عن بعضها البعض، فالربط سيعني مزيداً من الدمار والحرب الطويلة، والربط بين الجبهتين خطير ومضر لإيران نفسها المرهقة من حروبها ووجودها في العديد من العواصم العربية، وتخشى فقدان أهم ورقة للتفاوض خلال العقد الأخير.

لكن الكلمة الفصل هي في شنّ الجيش الإسرائيلي للعملية البرية من عدمه، رغم بعض التقدم والتوغل المحدود، والتي تشكل-الحرب البرية- مسرحاً أساسياً كُلياً للحرب بين الطرفين، خاصة لجهة حجم ونتائجه على قطاع غزة، علماً أن جبهة "حزب الله"-إسرائيل ليست بالمطلق جبهة خاصة أو ثانية منفصلة بين إسرائيل وحماس، بل هي كُل واحد أي تطورات هنا ينعكس هناك، وفقاً لمعادلات الحرب، وخاصة الأصلاء والطرفين غير المباشرين، أمريكا وإيران، لذلك فإن أفضل الحلول للجميع هو في عدم توسعة رقعة الحرب. 

حالياً، ووفقاً للمشاهدات والوقائع الجغرافية والميدانية، وتبادل الرسائل الدبلوماسية والسياسية بين أطراف الحرب وتطورات القصف المتبادل والنزوح والتدمير المرعب للبنية التحتية التي طالت القطاع، فإن "جغرافية أمر الواقع" أصبح سيد المشهد، وإن كان ظرفياً مهيئاً للتراجع والانهيار وفقاً لمتغيرات موازين القوى والتوافقات السياسية الدبلوماسية، لكنها من بين التطلعات الإسرائيلية حيال وضع جيوسياسي جديد في غزة.

الكثير من المؤشرات تدفعنا للتفكير بعدم رغبة الجميع بالحرب البرية الواسعة؛ فوزير الخارجية الإيراني "حسين أمير عبد اللهيان" أعلن أن طهران تلقت أكثر من رسالة أمريكية ومن أكثر من جهة، في مجملها أكدت تلك الرسائل أن واشنطن لا تسعى لتوسيع رقعة الحرب، وتخصص طهران بدور ضبط النفس، وأكد الوزير أن مبادرة سلطنة عمان تقوم على عودة جميع الأطراف للاتفاق النووي. ولن تفوت إيران الفرصة للاستثمار الدبلوماسي للأزمة، وبل ستسعى للخروج "كمنتصر" وتتفاوض مع أمريكا، لوضع خطوط حُمر جديدة وترتيبات اليوم التالي للحرب. إضافة للخطر الذي تشكله الفصائل المسلحة في العراق على المصالح الأمريكية التي تمتلك شبكة من المصالح الإستراتيجية وقاعدتين عسكريتين في عموم العراق، إضافة لقواعد عسكرية في عموم شمال شرق سوريا، والتي تمكنت بعض المسيرات التابعة لتلك الفصائل من الوصول لتلك القواعد وإيصال الرسائل العسكرية المطلوبة منها، وإن لم تحصل أضرار كبيرة، لكنها كانت رغبة بتشتيت الاهتمام عن جبهة غزة، وتدخل ضمن خانة الضغط الدبلوماسي الإيراني. 

بالمقابل الوضع الجغرافي والأمني والعسكري في قطاع غزة لن يكون بعد 7/أكتوبر-تشرين الأول، كما قبله، وهو أيضاً مؤشر واضح على قبول طهران بالمعادلة الجديدة لنقاط السيطرة والتماس وواقع جديد في القطاع، والاشتباكات المتقطعة والقصف المتبادل ما بين "حزب الله" والجيش الإسرائيلي، ما هو سوى رسائل وممهدات لخرائط جديدة، ربما تكون جغرافية بالمعنى التقسيمي والترسيمي الجديد للمنطقة، والذي سيؤدي لضغط كبير على نفوذ حركة حماس السياسي والاقتصادي والعسكري والأمني، ودور محوري جديد للأمم المتحدة فيه، وربما تعيدنا الذاكرة لحرب تموز2006، بين ميليشيا حزب الله وإسرائيل حين أصدر مجلس الأمن القرار الدولي رقم /1701/ والذي نص على نشر المزيد من القوات الدولية في جنوب لبنان، وحظر مناطق جغرافية على "حزب الله"، شيء يُشبه المنطقة الأمنة، والتي يُمكن أن تتكرر في قطاع غزة أيضاً، فلا شيء يحدث في الشرق الأوسط بمحض الصدفة، أو دون مشاركة العديد من الأطراف فيها، فهذه المنطقة متشابكة المصالح خاصة مع انقسام الشرق إلى محاور متحاربة ومتصارعة سواء سياسية أو عسكرية. 

بالمجمل فإن حضور حركة حماس ضمن المشهد السياسي-العسكري العام في فلسطين وضمن معادلات التوازنات في الشرق الأوسط، ربما يكون في طريقه للضغط والانحسار والخفوت، وإن لم يكن الإنهاء التام؛ فإيران لا ترغب بذلك، لكن كل الأطراف ستضطر للتأقلم مع توازنات اللحظات الحرجة وفق واقع جيوسياسي جديد، وهو إضعاف لدور ومكانة إيران أيضاً في واحدة من أهم الساحات التي تعمل فيها وبها، وإن حصل ذلك فإنها ستخسر أبرز أوراق لعبها في لحظة الانتقال السياسي على المستوى الفلسطيني العام، مقابل مكاسب في أماكن أخرى.

ويبدو أن واشنطن في طريقها للتخلص من "توازن الرعب" الذي طالما تغنى به "محور الممانعة والمقاومة"، خاصة مع تبدل قواعد الاشتباك التي كان معمولاً بها منذ سنوات. إضافة أن مؤشراً شعبياً في بالغ الخطورة على ذلك المحور بدأ بالظهور وله علاقة بمجمل الأحداث والتطورات التي عصفت بسورية ولبنان. فلا يوجد استنفار شعبي سوري-لبناني لجانب الحركة والحزب، لو قارناه بحرب عام2006، وبل تشير وسائل التواصل الاجتماعي والعديد من الآراء أن المتحدثين والمتعاطفين والرافضين للحرب جاء حزناً وتضامناً مع المدنيين فحسب؛ والسبب في ذلك يعود للتغيرات والتبدلات الاقتصادية المرعبة التي تعصف بلبنان والأزمة الاقتصادية الخانقة، وكنتيجة لتطور النزاع والحرب في سوريا إلى صراع هويّاتي، ومع الاحتقان الشعبي اللبناني السوري لمشاركة ميليشيا حزب الله في الحرب في سوريا، رسخت حرب غزة ذلك الاحتقان والصراع الهوياتي.

بالمحصلة فإن واشنطن يُمكنها كبح جماح الغزو والاجتياح البري الإسرائيلي على قطاع غزة، ولطهران إمكانية من كبح جماح حركة حماس، ومنع "حزب الله" من المشاركة الواسعة بفاعلية في الحرب، والفارق بين مصالح الكابحين، إن إيران ترغب بقبض ثمن كوابحها بما يخدم جغرافيتها وملفها النووي ومصالحها في سوريا، وأمريكا الساعية لفرض واقع جديد في غزة وعموم الشرق الاوسط

تضامناً مع المدنيين، وبعد قرابة شهرٍ على الإبادة التي يتعرضون لها في قطاع غزة، لا إمكانية للحديث عن حجم التكلفة البشرية للقصف الإسرائيلي على قطاع غزة بعد عملية "طوفان الأقصى"؛ فكتلة الخسائر بعد نشر المقالة هي أضعاف ما قبله، خاصة مع القصف المتواصل على القطاع، والتي خلفت أعداداً كبيرة من الجرحى والقتلى بين الأطفال والنساء، لتأتي نكبة جديدة للفلسطينيين، لكن بنكهة جديدة، مع كل الضخ الإعلامي والمالي والعالمي لقضايا حقوق الإنسان والأسرى وحماية المدنيين في أيام النزاع والحروب، لكن الترانسفير-التهجير القسري للفلسطينيين مستمر وأصبح مادة دسمة للنقاش من جديد، وتُطرح هذه المرة قضايا حول نقلهم للاستقرار في دول أو مناطق أخرى عبر "تدجينهم" ودمجهم في مجتمعات جديدة.