ما بين سوريا وغزة.. ازدواجية المعايير تنسف منظومة القيم والحقوق

ما بين سوريا وغزة.. ازدواجية المعايير تنسف منظومة القيم والحقوق

لم تكن أحداث غزة المأساوية وما رافقها من تعمّد القوى الكبرى المتحكّمة بالقانون العالمي تسييس الحقائق والوقائع، بجديد أو مستغرب، بل تجسّد مشهدُ تجاهل القانون الدولي والكيل بمكيالين وتبرير القتل حاضراً خلال فترة الثورة السورية، ما ساهم في إطالة أمد النزاع فيها.

برزت المراوغة وازدواجية المعايير للحقائق في موقف روسيا من الحرب الهمجية التي شنتها حليفتها ميليشيا أسد ضد الشعب الثائر، ومن الحرب المدمرة على قطاع غزة، ففي الحالة السورية وقفت روسيا إلى جانب الأسد واستخدمت حق النقض الفيتو أكثر من 18 مرة ضد قرار يهدف لوقف إطلاق النار وتمديد المساعدات الإنسانية، في حين أنها دعمت مشروع وقف إطلاق النار وتسهيل مساعدات إنسانية عاجلة إلى غزة.

ومن جهة أخرى لم يتجاوز موقف الغرب تجاه القضية السورية عتبة التصريحات المناهضة لانتهاكات حقوق الإنسان، إلا أن الموقف ذاته تحول لخطوات عملية في الحرب الأوكرانية من حيث الدعم السياسي والعسكري بدءًا من المسارعة بتقديم مشروع قرار للتصويت عليه يتناول مباشرة فرض عقوبات تحت الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة. 

ورَعت روسيا في سوريا التسويات واتفاقات المصالحة ضمن الأراضي السورية وساهمت بعمليات التهجير القسري وإعداد مرحلة تغيير ديمغرافي واسع، في حين أنها رفضت ضمن جلسة مجلس الأمن خطة تهجير فلسطينيي قطاع غزة، ولم  يتوقف الأمر عند ذلك فحسب، فقد أدانت روسيا استهداف إسرائيل مشفى المعمداني في غزة، في الوقت الذي لا تزال فيه ومنذ تدخلها في سوريا 2015 تستهدف المشافي والمراكز الطبية.

ولا يخفى أن هذه المواقف مرتبطة بالعداء مع الغرب بعد تقديم الأخير دعماً عسكرياً لأوكرانيا التي تخوض حرباً عنيفة ضد الهيمنة الروسية منذ شباط/ فبراير العام 2021.

القانون الدولي في مستنقع التحالفات

ينغمس القانون الدولي في مستنقع المحاصصات والتحالفات، وتشوّه الحقائق وتبرز المواقف الانحيازية لا سيما وسط غياب منهجية إلزام التطبيق والقدرة عليه. 

يؤكد الصحفي والمؤرخ الفرنسي "ألان غريش"، بعد إدانة الغرب لعملية "طوفان الأقصى"، قائلاً: "في كل مرة ينتفض فيها الفلسطينيون، يستحضر الغرب الذي لا يتوانى عن تمجيد مقاومة الأوكرانيين، الإرهاب. لكن ما تؤكده الأحداث الجارية، مرة أخرى، هو أن الاحتلال يطلق العنان دائماً لمقاومة يتحمل المحتل وحده مسؤوليتها".

وتكفي المقارنة بين صمت رئيسة المفوضية الأوروبيّة، "أورسولا فون دير لاين" عن وصف وزير الدفاع الإسرائيلي سكان غزة بـ "الحيوانات البشرية" وتهديده بقطع الوقود والغذاء والمياه عن مليوني فلسطيني والتهديد بتهجيرهم، وبين تصريحاتها التي وصفت الحرب الروسية على أوكرانيا بأنها إرهاب، مصنفة الهجمات الروسية على البنى التحتية المدنية وقطع المياه والكهرباء، بجرائم حرب.

وباستحضار نموذجي قصف المشفى المعمداني في غزة وقصف روسيا لمشفى ماريوبول الأوكراني، يمكن معاينة تبرئة أمريكا لإسرائيل في نموذج غزة، وتهديدها بفرض عقوبات باهظة بعد تحميل روسيا مسؤولية القصف، وهو ما يعزّز فكرة أن منظومة الحقوق والقوانين الناظمة لها وآلية تنفيذها ما هي إلا أداة سياسية تستخدم وفقاً لمصالح الدول بعيداً عن أي دعاية قيمية وأخلاقية، يدعمها بالطبع معيار القوة القانوني، الذي يمنع من المحاسبة، فالقانون الدولي الذي استخدمه الغرب لدعم أوكرانيا هو نفسه الذي تتغاضى عنه تجاه ما يحصل في غزة وقبلها سوريا.

حسب تقرير نشرته منظمة "أطباء بلا حدود"، أيلول/ سبتمبر العام الفائت، بعنوان "أوكرانيا: حرب المعايير الإنسانيّة المزدوجة، 5 أمثلة"، فإن اهتمام وسائل الإعلام والتغطية الإعلامية طوال الأشهر الأولى من الحرب في أوكرانيا كانا كبيرين مقارنة بقضايا وأزمات أخرى تم تجاهلها.

ومن ضمن الأمثلة التي تناولها التقرير تمويل المساعدات السخي لأوكرانيا، حيث إن هناك 15.7 مليون شخص محتاج، في الوقت الذي تقلّص تمويل استجابات في مناطق أخرى في العالم مثل سوريا والمناطق ذات الصلة بأزمتها، حيث هناك 34.1 مليون شخص محتاج.

كذلك تناول التقرير استهداف المرافق الصحية وقصف المستشفيات، فقد أبلغت منظمة الصحة العالمية عن وقوع 503 هجمات على مرافق الرعاية الصحية، أدت إلى مقتل 100 شخص وإصابة 127 آخرين، وتصدرت هذه الهجمات الأخبار مقابل تعتيم على استهدافات أخرى لمستشفيات حصلت في سوريا.

التباكي وفق المصالح

في حديثه لأورينت، أكد المحامي "أنور البني"، رئيس المركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية، أن كلّ طرف ينظر إلى الجرائم من وجهة نظر مصالحه السياسية،  وهذا يمكن ملاحظته في موقف روسيا التي تتباكى على غزة رغم أنها استهدفت أطفالًا في مدارسهم ودمّرت مخابز ومستشفيات وجرّبت كلّ أسلحتها على الأرض السورية، وكذلك إيران التي تخرج كل دقيقة منددةً بالحرب على غزة في الوقت التي استخدمت فيه ميليشياتها لقتل السوريين والعراقيين واليمنيين واللبنانيين، ومارست جرائم يندى لها جبين الإنسانية.

مضيفًا، أن الأسوأ من ذلك كله والمضحك المبكي هو تباكي الولايات المتحدة على الإسرائيليين وإدانتها حماس، رغم أنها ارتكبت جرائم حرب وقتل وإبادة في العراق وأفغانستان.

"ويعدّ القانون معياراً أكثر من كونه أداة فاعلة لأن القضاء عموماً لا يملك أسناناً ولا أدوات تنفيذية تحاكم المجرمين، فالأدوات بيدّ السياسيين والقوى على الأرض، فالقانون الدوليّ يشير بسبابته إلى عين الجرائم التي ارتكبتها كلّ الأطراف منذ القدم، لكن السؤال من يملك الإرادة السياسية وراء القضاء حتى يتمكن من المحاسبة؟"، حسب البني.

يمكن القول ختاماً، إن عدم الالتزام الحقيقي بمعايير المحاسبة وبحث الدول عن مصالحها متجاهلة ضوابط الحفاظ على حق الإنسان وحمايته هو ما فتح الأبواب أمام تنفيذ الجرائم باعتبار أنها جرائم ستلقى من يموهها ويدافع عنها ويبررها، كاستخدام الأسلحة المحرمة ضد المدنيين والمشافي واتباع سياسة الحصار والتجويع والإخفاء القسري والتهجير ومنع المساعدات الإنسانية، في حين أن ازدواجية المعايير التي سبّبت كل تلك الكوارث، لم تعد تقتصر على أسلوب ووسائل الدول فقط في توجيه القانون، بل انتقلت العدوى لوسائل الإعلام في تغطياتها وتعامل المنظمات الدولية في استجاباتها كما حصل في زلزال شباط/ يناير الفائت، عندما تواطأت المنظمات الدولية بإدخال مساعداتها إلى المنكوبين في الشمال السوري على عكس التفاعل العالمي والاستجابة السريعة لولايات الجنوب التركي المنكوبة أيضاً.

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات