لا شك أن الشعب الفلسطيني الذي يكافح منذ عشرات السنين، يكافح من أجل حريته وتحرره من الظلم والاحتلال والفوضى والتهجير القسري من أرضه ووطنه، وكذلك الشعب السوري هو الآخر الذي كان ينتظر لحظة مفصلية ليرفع صوته في وجه نظام أسد الذي قمع وشرّد وحوّل سوريا إلى سجن كبير، مختبئاً خلف عناوين "الصمود والتصدي" بهدف التضليل والتغطية على عملية التوريث التي كانت الشرارة الأولى التي وضعت الشعب السوري أمام خيارين لا ثالث لهما، إما قبول الأمر الواقع، أو مواجهة التوريث والعمل من أجل التحرر والتخلص من الاستبداد.
كل هذه الأحداث والتطورات في الشرق الأوسط وضعت القضية الفلسطينية في القوائم الهامشية للاهتمام الإقليمي والدولي، وأصبحت في طي النسيان. انشغلت كل دولة بوضعها الداخلي، فاستغلت تل أبيب هذه التطورات ونقلت الكرة إلى الملعب العربي، وخاصة في سوريا التي وصلت فيها إلى المراحل المتقدمة، تحت عناوين محاربة الميليشيات الإيرانية.
بين هذا وذاك، دخلت المنطقة برمّتها في حالة فوضى وغليان. استغلت التنظيمات الإرهابية هذه الصراعات وخلطت الأوراق، في محاولة منها لحجز موطئ قدم لها في المشهد الجديد في سوريا واليمن والعراق وليبيا.
لماذا "طوفان الأقصى"؟
أي تطور يحدث في الشرق الأوسط تؤثر وتتأثر به جميع الدول، ففي سوريا على سبيل المثال، وبعد الإعلان عن القضاء على تنظيم داعش في عام 2019، استغل حزب العمال الكردستاني حاجة الدول الغربية لمحاربة هذا التنظيم وألقى بنفسه داخل الملعب، وعرض نفسه كسلاح فتاك لتحقيق الهدف الغربي في المنطقة. هذا الأمر فرض عناوين وقواعد جديدة في المشهد السوري برمته، حيث دخلت سوريا في حالة فوضى وانفتحت الحدود مع العراق والأردن على مصراعيها. وبدأت الميليشيات الإيرانية تستخدم سوريا كوسيلة لنقل المعركة إلى حدود إسرائيل، وتحديداً بالقرب من الجولان، وباستغلال الظروف التي خلّفها تنظيم داعش في المنطقة. وجدت واشنطن نفسها أمام نارين، نار استغلال الميليشيات الإيرانية لحالة الفوضى على الحدود السورية العراقية، ونار تكرار التجربة العراقية في سوريا، أي تسليم هذه الدولة بكامل تفاصيلها إلى الحرس الثوري الإيراني. ولمنع تحقيق ذلك، عملت واشنطن في الآونة الأخيرة على إغلاق الحدود السورية العراقية بعمق 50 كيلومتراً على طرفي الحدود، وبطول 400 كيلومتر. والهدف القريب من إغلاق الحدود السورية العراقية هو منع تسلل الميليشيات الإيرانية من وإلى سوريا، والهدف البعيد لهذا الإجراء هو حماية "قسد" من الخاصرة وجعلها واقعاً لا رجعة فيه يسيطر على منطقة جغرافية تتجاوز مساحتها غزة بثلاث مرات.
بما إن إيران جزء لا يتجزأ من المشهد السوري، عملت ميدانياً مع تركيا، وسياسياً مع السعودية وبقية دول الخليج ومصر، لتحديد البوصلة نحو مواجهة المخطط الغربي في المنطقة، وجدوا أنفسهم جميعاً أمام خيارات صعبة. إما تحريك ورقة القضية الفلسطينية وإعادتها إلى مسارها الصحيح، وإلا فإن الوقت ليس لصالح أحد.
ونظراً لبروز مشاريع ومخططات جديدة في المنطقة، سيجد الجميع أنفسهم مستقبلاً أمام خيارات صعبة وقاسية، وسيكون التعامل معها حتمياً. وربما ستكون الفاتورة باهظة بالمقارنة المرحلة الراهنة. وبالتالي، جاءت عملية “طوفان الأقصى" لتحقيق هدفين: إعادة القضية الفلسطينية والمظالم التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني إلى الواجهة من جديد، وجعلها أحد أهم أولويات الاهتمام الإقليمي والدولي.
والهدف الثاني غير المعلن، هو توجيه رسالة حاسمة إلى واشنطن وتل أبيب، مفادها أن اللعب بمصير جغرافيا المنطقة كما كان في الماضي غير مسموح به، وأن فرض وقائع جديدة في المنطقة غير ممكن. استوعب الأوروبيون وكذلك الأمريكيون الرسالة وقرؤوها بشكل جيد.
تغيّر قواعد اللعبة
أدركت الرياض ومعها الدوحة خطورة اللعبة وارتداداتها على الشرق الأوسط، واطّلعتا على تفاصيل المخطط الإسرائيلي الكامل في المنطقة. وبناءً على ما ذُكر، حشدت الدول الإسلامية التي كانت أساساً تنتظر صافرة الإنذار للتعبير عن موقفها من التصعيد القائم في غزة.
نجحت الدولتان الخليجيتان إلى حدّ ما في وضع الدول العربية والإسلامية أمام مسؤولياتها وحثهم على خطورة الوضع في غزة، حيث تعتبر غزة بمثابة الخط الأمامي لمواجهة التمدد الإسرائيلي في المنطقة.
بدورهم، أوصل قادة العرب والدول الإسلامية رسالتهم في قمة الرياض بوقت ومكان مناسبين، والأهم من كل ذلك، هو أن الرسالة كانت موجهة للرأي العام الأوروبي، معلنين فيها رفضهم للمخطط الغربي المعلن وغير المعلن الذي يهدف إلى تفتيت المنطقة وتهجير الشعب الفلسطيني من أرضه ووطنه، وبطبيعة الحال، الرسالة وصلت وحققت المراد منها بدون تأخير.
خطأ في الحسابات
كانت تل أبيب وواشنطن على الدوام تعتقدان أن الأحداث الجديدة التي تأثرت بها المنطقة، وخاصة في مصر التي تشهد حالة عدم رضا من الشعب تجاه القيادة الحالية، وحالة الفوضى في سوريا والعراق مع انتشار الميليشيات بمختلف مسمياتها، أتاحت لهما الفرصة لتهجير الشعب الفلسطيني من غزة. وما لم يتوقعه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ولم يكن في الحسبان، هو الرد العربي الإسلامي المشترك والحاسم تجاه التصعيد في غزة، ولا شك أن هذه الدول تستفيد من التطورات في أوكرانيا وتايوان، وبالتالي تستفيد من توسع نفوذ القوتين العظميين، روسيا والصين، في الشرق الأوسط، وحاجة الغرب إلى الدول الخليجية، خاصة في الصراع القائم مع موسكو على أوكرانيا. واختارت تل أبيب التوقيت الخاطئ لتهجير مليوني فلسطيني وبالتالي محاولةً منها للسيطرة على سيناء، ولم تقرأ المشهد الدولي بشكل كامل.
بينما استفادت الدوحة والرياض من ورقة طهران كعدو لدود لواشنطن وتل أبيب، ومن تصاعد القوة العسكرية التركية في الشرق الأوسط، وبرزت هاتين البطاقتين في وجه واشنطن في التوقيت الصحيح جعلتها في موقف لا تُحسد عليه أمام الرأي العام العالمي. ودفعت حتى بالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون للمطالبة بوقف التصعيد في غزة ورفض التهجير. وكل هذه التطورات أثرت أيضاً على تصريحات وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، الذي تراجع في موقفه "المعادي" للشعب الفلسطيني والذي قال بالحرف (أتيت كيهودي إلى إسرائيل وليس بصفتي السياسية) وفيما بعد تراجع وخفف من حدّة تصريحاته معرباً عن تعاطفه مع سكان غزة.
الخلاصة، أخطأت تل أبيب في حساباتها وتوقيت اجتياحها لغزة، وعملية "طوفان الأقصى" أعادت القضية الفلسطينية إلى الواجهة وإلى مسارها الصحيح. واستفادت الرياض والدوحة وأنقرة وطهران من التنسيق المشترك فيما بينهم، رافعين البطاقة الحمراء في وجه نتنياهو الذي وجد نفسه في موقف لا يحسد عليه وعلى الأغلب سيتم الإطاحة بحكومته إن استمرّ الوضع في غزة على هذا النحو.
وفي الختام تبقى كلمة الفصل هي لدى الفصائل في غزة ومدى صمودها وقدرتها على مقاومة اجتياح إسرائيلي لغزة.
وعلى الجميع أن يدرك جيداً أنه إذا تمكنت إسرائيل من اجتياح غزة وتهجير مليوني شخص منها فستكون سيناء هي الوجبة التالية، وسوريا والعراق نحو مشروع التقسيم، وهذا لا مفرّ منه ولا يختلف عليه أحد.
التعليقات (0)