في الوقت الذي يسلّط فيه الإعلام العالمي تغطياته نحو غزة التي تعاني مذابح جماعية، تستغل تركيا ولبنان ذلك بمضاعفة عمليات ترحيل قسري للاجئين السوريين، دونما اكتراث لما يحمله هذا الترحيل القسري من خطر يهدّد حياتهم، ويضعهم على أبواب كارثة إنسانية متجددة.
في بيان لها، صدر مؤخراً، قالت منظمة "هيومن رايتس ووتش"، إن هناك استمراراً في عمليات ترحيل اللاجئين بما في ذلك ترحيل سوريين من لبنان وتركيا باعتبار أن اهتمام العالم يتركز الآن على غزة.
وقال مدير قسم حقوق اللاجئين والمهاجرين في المنظمة "بيل فريليك": هناك حاجة ملحة لحماية المدنيين المعرضين لخطر المزيد من التهجير القسري أو الطرد الجماعي.
وأشار إلى أن تركيا تستضيف أكبر عدد من اللاجئين مقارنة بأي دولة أخرى، لكنها ترحّل حالياً أعداداً كبيرة من السوريين والأفغان، وتعيد طالبي اللجوء والمهاجرين على حدودها مع سوريا وإيران.
حسب دراسة تحليلة قدمها "مركز الحوار السوري"، فإن البيانات تشير إلى انخفاض في أعداد السوريين، لا سيما منذ بداية عام 2023؛ إذ انخفضت أعداد السوريين في الأشهر الستة الأولى من العام بمقدار 230 ألف شخص، وهو ما يشكل 6% من إجمالي عدد السوريين في تركيا، وقد شهدت هذه الفترة أحداثاً مهمة ومؤثرة؛ مثل زلزال 6 شباط، والانتخابات الرئاسية والبرلمانية، والحملة الأمنية التي شنّتها الحكومة التركية ضد الهجرة غير الشرعية.
ولفتت الدراسة إلى أن عمليات العودة الطوعية (حسبما تسميها السلطات التركية)، هذا العام تمّت من المعابر الأربعة، "باب الهوى"، "باب السلامة"، "معبر جرابلس"، "معبر تل أبيض"، على عكس ما هو معلن في السنوات السابقة، إذ كان يتم توجيه العائدين إلى معبر باب الهوى بإدلب أو معبر باب السلامة بإعزاز في ريف حلب، ومن اللافت أن العدد الأكبر من العائدين طوعياً تم إدخالهم من معبر تل أبيض في منطقة نبع السلام (منطقة تل أبيض وراس العين)، وهي منطقة شبه فارغة لا يتجاوز عدد سكانها 250 ألف نسمة تفتقر إلى الخدمات، وهو ما قد يعزّز فرضية أن معظم العائدين أُجبروا على العودة وتم ترحيلهم بالإكراه دون أن تكون لهم حرية الاختيار.
حملات الترحيل في تركيا لا تتوقف
ولا تزال حملات الترحيل مستمرة بزخم كبير منذ حملة الإعادة للانتخابات الرئاسية بين أيار/ مايو الماضي، والتي فاز فيها الرئيس أردوغان على منافسه كمال كليجدار أوغلو، ويبدو أن الحملة تبلغ ذروتها الآن مع عملية "طوفان الأقصى" وقبيل انتخابات البلديات في آذار/ مارس 2024، في سعي من الحكومة لكسب الاستحقاق الانتخابي الكبير في انتخابات البلديات، واستجابة لردّة الفعل الشعبية المتضايقة من الوجود السوري في ظل التدهور المعيشي الذي تعانيه البلاد، ورضوخاً لضغوط الحليف الرئيسي لحزب العدالة والتنمية وهو "حزب الحركة القومية" المعروف بمعارضته لبقاء السوريين في تركيا.
يؤكد الناشط السوري في مجال حقوق اللاجئين بتركيا، طه الغازي، توثيق عمليات ترحيل قسرية في تركيا، زادت وتيرتها خلال الأسابيع الماضية ولا سيما منذ بدء العملية العدوانية على غزة في السابع من أكتوبر الفائت.
وعزا الغازي في حديثه لأورينت تعمّد السلطات ورئاسة الهجرة التركية زيادة عمليات الترحيل القسري إلى انشغال مساحات الإعلام التركية والسورية التابعة للمعارضة والإعلام العالمي بأحداث غزة، والذي اعتبرته رئاسة الهجرة فرصة ثمينة لرفع وتيرة الترحيل القسري.
وقد تزامن ذلك الترحيل مع إلغاء قيود بطاقات الحماية المؤقتة مؤخراً لآلاف اللاجئين السوريين في تركيا، وعدم تجديد أذن السفر لمتضرري الزلزال والقادمين من الولايات المتضررة منه إلى إسطنبول، حسب الغازي.
وكان مركز حقوق اللاجئين (مركز الهجرة واللجوء) في نقابة المحامين الأتراك بولاية شانلي أورفا التركية، قد أشار مؤخراً لانتهاكات جمّة بات اللاجئون السوريون يتعرضون لها في مراكز الترحيل وذلك ضمن ميدان سياسة منهجية الإعادة القسرية المفروضة عليهم من قبل رئاسة الهجرة.
لافتاً إلى زيادة عمليات الترحيل القسرية التي باتت تنتهجها مديرية الهجرة في حق اللاجئين السوريين، إضافة لتفاقم انتهاكات القانون بمنحى تصاعدي في كل من قرارات وممارسات مديرية الهجرة ومركز الترحيل .
الترحيل من لبنان يعني الموت
لا يبدو أن وضع اللاجئين السوريين في لبنان أفضل منه حالاً في تركيا، إذ تشتدّ الحملات الحزبية والطائفية التي تحثّ على طرد اللاجئين السوريين، باعتبار أن وجودهم يشكل أعباء ثقيلة على البلد المنكوب والرازح تحت أزمات سياسية ومالية واقتصادية واجتماعية عميقة، حسب زعمهم، رغم أن الحكومة في لبنان كما تركيا لا تدفع قرشاً واحداً من خزينتها على اللاجئين السوريين الذين يستفيدون من برامج الدعم والتمويل الأوروبي والأممي.
تقول "هيومن رايتس ووتش"، إن الحكومة اللبنانية تستهدف آلاف السوريين الذين يفتقرون إلى الوضع القانوني للترحيل، لافتة إلى أن الحكومة منعت وكالة اللاجئين التابعة للأمم المتحدة من تسجيل اللاجئين السوريين، وحالياً 17 بالمئة فقط من اللاجئين السوريين يحملون إقامة قانونية.
من جهته يؤكد مركز "وصول لحقوق الإنسان"، (مركز توثيقي للانتهاكات ضد اللاجئين في لبنان)، قيام الجيش اللبناني بين 3 و10 من تشرين الثاني الجاري، بتنفيذ حملة اعتقالات مكثفة ويومية فجراً ومساءً بحقّ عدد من مخيمات وأماكن سكن اللاجئين السوريين، وإقامة حواجز متنقلة وتعمّد اعتقال وترحيل العشرات ممّن لا يملكون إقامات شرعية وتفتيش خيامهم ومصادرة ممتلكاتهم.
في حديثه لأورينت، يؤكد المحامي اللبناني "محمد صلبوح"، الناشط في مجال حقوق اللاجئين في لبنان، أن السلطات اللبنانية تستغل ما يجري في غزة لترحيل أكبر عدد ممكن من اللاجئين السوريين من لبنان، رغم ما يشكله ذلك من اختراق وتجاوز للقانون الدولي الذي يكفل حقوق اللاجئين.
"وقد لاحظنا تعمد السلطات وضع عدد من السوريين في السجون مدة طويلة، لإجبارهم على الترحيل، رغم توقيع لبنان اتفاقية تمنع ترحيل أي لاجئ على أراضيها"، يقول صلبوح.
وتخشى المنظمات من عمليات عودة اللاجئين، إذ أكد " باولو بينيرو" رئيس لجنة التحقيق الدولية الخاصة بشأن سوريا، أيلول/ سبتمبر الفائت، أن سوريا لا تزال غير آمنة لعودة اللاجئين، وأن الحرب في سوريا لم تنته، كما إن أطراف النزاع في سوريا تواصل "ارتكاب جرائم الحرب وانتهاك حقوق الإنسان الأساسية".
ويمكن ملاحظة أن الترحيل القسري يترتب عليه دفع السلطات التركية واللبنانية للاجئين إلى المخاطرة بأنفسهم عبر موجات هجرة جديدة إلى أوروبا محفوفة بالمخاطر، أو إجبارهم على العودة إلى الشمال السوري المنفجر سكانياً، بما يحويه من 5 ملايين نسمة، عدا عن استمراره في استيعاب الفارين من مناطق سيطرة ميليشيا أسد، مع ملاحظة تدهوره الأمني وغياب الأمن وهشاشة البنى التحتية اللازمة فيه، وانهيار الوضع المعيشي الذي يعد حاجزاً أمام عودة اللاجئين، إضافة إلى الخوف من تكرار سيناريو درعا في الشمال.
وكذلك الحال بالنسبة للبنان، والذي يعني الترحيل منه إلى سوريا الموت المحقق، في ظل استمرار حملات الاعتقال والتصفية من الأجهزة الأمنية بحق العائدين، إذ يشير تقرير أصدرته الشبكة السورية لحقوق الإنسان، في منتصف آذار/ مارس الفائت، إلى اعتقال ما لا يقل عن 2504 أشخاص، بينهم 257 طفلاً و199 سيدةً (أنثى بالغة)، من اللاجئين الذين عادوا من دول اللجوء أو الإقامة إلى مناطق إقامتهم في سوريا، بين عامي 2014 حتى آذار/ مارس 2023، بالإضافة إلى اعتقال ما لا يقل عن 984 مهجّراً داخلياً عادوا إلى مناطق سيطرة أسد، بينهم 22 طفلاً و18 سيدة.
ولعل إحدى الشهادات التي سردها تقرير منظمة العفو الدولية، في أيلول/ سبتمبر 2021، والمعنوَن بـ"أنت ذاهب إلى الموت"، ترسم مشهد الترحيل القسري والعيش في ظل ميليشيات بوليسية متوحشة تنتهج القتل والتصفية منذ أكثر من عقد بحق السوريين، تذكر الشهادة: أن ضابط المخابرات الذي اغتصب إحدى العائدات من لبنان، قال لها: "هذا للترحيب بك في بلدك، إذا خرجت من سوريا مرةً أخرى وعدتِ، فسوف نرحب بك بشكل أكبر".
التعليقات (2)