من وضع خطط اقتحام مستعمرات غلاف غزّة في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، وما أهداف هذا الاقتحام؟، وهل يمكن القول إن حماس، أرادت من هذا الاقتحام التذكير بأهمية الدور الفلسطيني في أي ترتيبات سياسية تشمل المنطقة؟ وهل الحرب على غزّة تسمح بتغيير في توازنات القوى العسكرية والسياسية في معادلة الصراع الفلسطيني / الإسرائيلي؟
أسئلة كثيرة دفعت إليها عملية "طوفان الأقصى" وما تبعها من سياسة القصف الشديد غير المبرر، الذي مارسته الآلة العسكرية الإسرائيلية بحق أحياء غزّة وبنيتها التحتية، وعدد الضحايا من المدنيين (الأطفال والنساء والعجّز) والذين اقترب عددهم من عشرة آلاف قتيل.
اقتحام الفصائل الفلسطينية لمستعمرات غلاف غزة فاجأ إسرائيل وكل المهتمين بالملف الفلسطيني، فهذه العملية الجريئة لم تقم على حسابات توازن قوى بين حماس وإسرائيل، وإنما قامت على حسابات المباغتة وأخذ أسرى، إضافة إلى استخدام أسلحة نوعية في القتال القريب أو المتوسط مع الجيش الإسرائيلي.
جوهر عملية "طوفان الأقصى" كان المراد منه استعادة ملف القضية الفلسطينية من الجامعة العربية ومبادرتها في قمة بيروت عام 2002. سيما وأن قطار تطبيع العلاقات العربية الإسرائيلية كان متوقفاً على تراجع إسرائيل عن رفضها للمبادرة المذكورة. لكن بعض أنظمة الدول العربية لم تعد مهتمة بالقضية الفلسطينية بقدر اهتمامها بتثبيت سلطاتها بوجه شعوبها.
من الناحية العملية، يمكننا القول إن نتائج عملية طوفان الأقصى أعادت القضية الفلسطينية إلى مربع الصراع الأساسي، ما ينسف كل الخطوات التي تجاوزته، خصوصاً (عمليات التطبيع العربية مع إسرائيل)، إذ أوقفت المملكة العربية السعودية مسار التطبيع مع إسرائيل مع تفجّر الصراع.
الأمر الثاني الذي نتج عن عملية طوفان الأقصى أظهر على العلن أن سلطة محمود عباس هي سلطة لا تمثّل القضية الفلسطينية، وفق قاعدة تحرير الأراضي العربية المحتلة عام 1967، لقيام دولة فلسطين عليها، وتكون عاصمتها القدس، فسياسة السلطة الفلسطينية هي سياسة الرضوخ للرغبات الإسرائيلية وانتظار مستقبل لا يأتي.
الأمر الثالث والمهم، هو أن عملية طوفان الأقصى قطعت الطريق أمام مشاريع اليمين الإسرائيلي المتطرف، والذي يمثله الائتلاف الحكومي الحالي بقيادة بنيامين نتنياهو، إذ اتضح أن تطرف الدولة العبرية يزداد كلما ازداد تراخي الفلسطينيين في كفاحهم للحصول على قيام دولتهم المستقلة وفق القرارات الدولية الصادرة عن مجلس الأمن.
اليمين الإسرائيلي ونتيجة سياسة السلطة الفلسطينية المتراخية بقيادة محمود عباس، عمد ومنذ زمن طويل على قضمٍ تدريجي للأراضي المحتلة في الضفة الغربية وقطاع غزّة، من خلال سياسة الاستيطان المستمرة، ورفض أي مبادرات حقيقية لتنفيذ القرارات الدولية الخاصة بالقضية الفلسطينية، وهذا يكشف عن خطورة هذه السياسة، التي تذهب باتجاه طمس تام لحقوق الشعب الفلسطيني في أرضه، وباتجاه قيام دولة إسرائيل على كل الأراضي الفلسطينية.
إسرائيل تريد فرض رؤيتها هذه على الأنظمة العربية، والتي بدت أنها غير مهتمة بحقوق الفلسطينيين، ولهذا تعتبر عملية "طوفان الأقصى" عملية قطع طريق على منحى تلك السياسات، وتثبيت أن الفلسطينيين هم من يقررون سياسة استعادة حقوقهم.
الأمريكيون من جانبهم، وعلى لسان وزير خارجيتهم انتوني بلينكن، وجدوا أن توحيد السلطة الفلسطينية على الضفة الغربية وقطاع غزّة، يساعد على انحسار سلطة حماس، ويخفف وفق رأيهم من تطرّفها، ويجعلها تقبل بالقرارات الدولية الخاصة بالقضية الفلسطينية.
هذا الأمر لقي صدىً له في تصريحات إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، حيث وافق هنية على قبول حركته بحل الصراع مع إسرائيل على قاعدة قيام دولتين، هما الدولة الإسرائيلية بحدودها قبل عدوان حزيران 1967، والدولة الفلسطينية على أراضي الضفّة الغربية وقطاع غزّة.
الأمريكيون بهذه الرؤية والتوجه يريدون تحقيق أهداف أوسع من الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، فهم أرسلوا مع حلفائهم حشداً بحرياً لمنع تطور الصراع في المنطقة من جهة، ولإفهام الجميع أنهم غير مستعدين للسماح لصراعات أخرى تضعف دورهم وأهدافهم في مواجهة الحرب الروسية على أوكرانيا.
الأمريكيون لا يريدون أن تصبح منطقة الأوسط ساحة صراعات لمشاريع لا تخدم أهدافهم الاستراتيجية المعلنة، مثل إجبار الروس على الانسحاب من كل الأراضي الأوكرانية، بما فيها شبه جزيرة القرم، التي ضمتها روسيا عام 2014. ويريدون ألا تهيمن إيران على هذه المنطقة، كي لا تتبعثر جهودهم في منع التمدّد الصيني إليها.
لهذا تبدو عملية "طوفان الأقصى" انعطافاً في وضع القضية الفلسطينية، أي تغيير في مسارها السابق نحو مسارٍ جديد، هذا المسار تريد الولايات المتحدة ومعها حلفها الغربي، أن يخدم سياستها الاستراتيجية لمواجهة التمدد الصيني، الذي يريد أن يزيحها بنموه الاقتصادي الكبير عن زعامة العالم، وتريد ألا تؤثر قضية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي على الصراع الغربي مع روسيا في أوكرانيا.
السياسة الأمريكية والغربية بهذا التوجه تتناقض مع أهداف وتوجهات سياسة اليمين الإسرائيلي المتطرف، فإذا أجبرت حكومة نتنياهو على قبول التوجهات الأمريكية سيكون هناك خاسر رئيسي كبير بجناحين، هما تطرف اليمين الإسرائيلي، وتطرف حماس وفق النظرة الأمريكية.
اليمين الإسرائيلي الحاكم في تل أبيب لا يجرؤ فعلياً على التوغل واحتلال غزّة، فهو إذا ما ارتكب ذلك، فستكون خسائر الجيش الإسرائيلي وخسائر المدنيين أكبر مما يحتمله الكيان العبري، وقضية أن يستمر في تدمير غزّة فهي ستجلب له عداءً لا يمكن له دفع ثمنه.
لذلك تبدو سياسة منع توسع الحرب وتشكيل حكومة فلسطينية تحكم الضفة الغربية وقطاع غزة هي الأمر الممكن والأكثر قرباً من مصالح الجميع باستثناء قوى التطرف في الجانبين.
فهل سنشهد انعطافاً سياسياً قريباً في وضع منطقة الشرق الأوسط؟ وفي وضع القضية الفلسطينية؟ وهل ستتمكن طهران بعد طوفان الأقصى من ضخ أكاذيبها بأن هدفها تحرير الأقصى وفلسطين؟ وهل سيجد اليمين الإسرائيلي نفسه في حالة هزيمة تاريخية؟ أسئلة ستجيب عليها الأيام القريبة.
التعليقات (0)